مكتبة هيكل

00:09 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.مصطفى الفقي

ذات صباح، وأثناء تواجدي مع أسرتي في قرية الدبلوماسيين بالساحل الشمالي، تلقيت اتصالاً هاتفياً كريماً من الدكتور أحمد محمد حسنين هيكل، يدعوني إلى لقاء في منزله بحضور السيدة الفاضلة والدته، هدايت تيمور، وشقيقيه، وفي وجود الدكتور نبيل العربي زوج خالته ووالد زوجته. ذهبت إلى اللقاء، واستمعت إلى ذلك العرض الكريم والمبادرة السخية من خلال قرار العائلة إيداع كتب «الأستاذ» وما في حوزته من وثائق تاريخية ومؤلفات نادرة للآخرين، وخرائط ذات قيمة عالية مع بعض مقتنياته الشخصية، بما في ذلك المكتب الذي كان يكتب عليه، والمقعد الذي كان يجلس عليه، مع مجموعة نادرة من الصور التي جمعته بزعامات العالم وقياداته، خصوصاً أن اسم محمد حسنين هيكل - كما يعرف الجميع - هو اسم كبير ملأ الدنيا وشغل الناس، ربطته صداقات قوية بعدد من الملوك والرؤساء في الشرق الأوسط وخارجه، فهو الذي غطى الانتخابات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وتابع الحرب الكورية، وعايش فصول الأزمة الإيرانية التي كتب عنها كتابه الشهير (إيران فوق بركان)، كما أنه التقى شخصيات خلافية مثل «الخميني»، فضلاً عن علاقته بمعظم دول الخليج ولقاءاته المنتظمة بالملِكين الراحلَين الحسين بن طلال، والحسن الثاني، إضافة إلى الرؤساء والقادة من زعماء الشرق الأقصى أثناء رحلته الآسيوية الشهيرة التي رافقه فيها المفكر المصري والدبلوماسي السابق جميل مطر، بعد ترك هيكل للأهرام في عهد الرئيس الراحل السادات، كما أنه رافق الرئيس الروسي خروتشوف في رحلته من بلاده إلى مصر للقاء الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، كما كان أول من تحدث مع القذافي ورفاقه بعد ثورتهم على النظام الملكي في ليبيا، وكذلك كان هو القوة المؤثرة في المباحثات الثلاثية حول دولة الوحدة من وراء ستار. ولا عجب، فقد اصطفاه عبدالناصر عندما اكتشف أنه أمام منجم هائل من المعارف السياسية والصلات الدولية، حتى أصبح شريكاً معترفاً به في عملية صنع القرار في مصر. وأتذكر عندما كنت دبلوماسياً صغيراً في لندن، أن صادف احتفال السفارة الجزائرية بالعيد الوطني في ظل سفيرها القدير في لندن حينذاك، الأخضر الإبراهيمي، وتسربت أخبار عن وجود هيكل في العاصمة البريطانية، ودعوته لحضور الاحتفال الذي تقيمه سفارة الجزائر بعيدها القومي، ويومها تقاطر أعضاء الحكومة البريطانية وأباطرة الصحافة في عاصمة الضباب سعياً للقاء هيكل، أو حتى مصافحته وتبادل كلمات قليلة معه. فقد أطبقت شهرته الآفاق، وأصبح واحداً من أهم خمسة كتاب في العالم حينذاك.

 وفي ظني أن هيكل كان هو «الجواهرجي» المتمكن الذي صاغ وثائق الدولة المصرية منذ قيام ثورة يوليو، وحتى بداية الجفوة بينه وبين الرئيس الراحل أنور السادات. فكان هيكل هو الذي كتب «فلسفة الثورة»، «والميثاق الوطني»، «وبيان 30 مارس»، ونعي الرئيس الراحل عبدالناصر، كما كتب صيغة أمر القتال للجيش المصري في حرب أكتوبر 1973، وغير ذلك كله من وثائق وكتابات ومقالات كان لها أكبر تأثير في المسرح السياسي المصري لعشرات السنين، وقد جمعتني به صلة طويلة جعلتني أستمع إليه، وأتعلم منه، حتى يفتح أمامي آفاقاً واسعة للخيال الممتد الذي ينقب في الأحداث، ويقلّب في الأخبار، ويخرج بالتحليل الصحيح في إطار الروح القومية وحدود الوطنية المصرية. وقد كنت حريصاً على زيارته طوال فترة حكم الرئيس الراحل مبارك، رغم أنني كنت أعمل في مؤسسة الرئاسة، ولم تكن الكيمياء البشرية منسجمة بين الرئيس وهيكل، ومع ذلك، لم أتوقف عن زيارته بعلم الرئيس الذي سمح لي بذلك دائماً، وقد كان هيكل، برغم شواغله وأعماله ونشاطه الدائم، ودوداً في كل المناسبات الاجتماعية، فقد حضر زفاف ابنتيّ الاثنتين، وعزّاني أنا وزوجتي في صهري ووالديّ. وفي صباح الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 دق جرس الهاتف النقال، فإذا بصوت هيكل يقول (هل من المعقول أنك بلغت اليوم السبعين عامًا؟ إن الذي يتابع نشاطك في الحياة العامة يظنك في الخمسين، والذي يقرأ لك وعنك يحسبك في التسعين)، وكانت هذه أجمل تهنئة تلقيتها في حياتي بمناسبة عيد ميلادي. 

 وفي عام 2016 رحل هيكل، وفقدت الدوائر السياسية والدبلوماسية والإعلامية نجماً متفرداً اختفى كما تذهب الشهب والنيازك، لشخصية لا تتكرر أبداً، وحزن عليه كل قرائه وتلاميذه ومريديه في أنحاء العالم، وأتاحت لي الظروف أن أكون في مسجد الحسين، في القاهرة، لصلاة الجنازة على الجثمان المسجّى أمامنا مؤرّخاً لحقبة مهمة ترحل من عالمنا. ويومها طلب الحاضرون مني أن ألقي كلمة في وداعه، كما طلبوا من الدكتور عبدالله النجار العالم الأزهري المرموق، أن يلقي كلمة هو الآخر، وتحدثنا وأبصارنا تتجه إلى جثمان الراحل وأسرته الذين كانوا يجلسون بيننا في وداع الأب العظيم، ويومها أغلق الملف وبدأت رحلتنا مع ذكريات هيكل وتراثه الثقافي الذي تحتضنه اليوم مكتبة الإسكندرية على شاطئ البحر المتوسط.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"