زرياب.. الموسيقى والإتيكيت

00:56 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

الموسيقى حسب شكسبير هي «غذاء الروح» ويضيف و«غذاء الحب» أيضاً، لأنها تؤنسن الروح والحب وبدونها ستكون الحياة خطأ فادحاً، ومنذ القدم قال أرسطو: الموسيقى أداة تطوير للنفوس وراحة للقلوب، ولذلك أن تهتم مؤسسة الفكر العربي بالفنان الموسيقي زرياب فهذا أمر له أكثر من دلالة:

 أولها- أن الموسيقى إحساس يعبّر عن «الجمال المسموع» وهي سموّ يسعى الإنسان إلى بلوغه لأنه يتعلّق بالوجود الإنساني، فهديل الحمام وزقزقة الطيور وشقشقة العصافير وحفيف الشجر وصليل الماء تدخل إلى القلب والعقل في آن. وكان بيتهوفن يعتبرها «وحياً يعلو على كلّ الحِكَم والفلسفات»، وحسب هوبمان «من لا يستطيع أن يتجاوب مع الموسيقى فلا قلب بين ضلوعه».

 ثانيها – تتأتّى من قيمة مؤسسة الفكر العربي، لما تحمله من رمزية جامعة لنخبة متميّزة من المفكرين وكوكبة لامعة من المثقفين العرب، حين تخصص حلقة مرئية عن زرياب، لإدراكها ما تمثّله الموسيقى من لغة للصداقة والسلام والتواصل والمشترك الإنساني بين الأمم والشعوب، وهي لغة تمثّل الذوق والحسّ والمشاعر الشفافة في زمن تصبح الحاجة إليها جزءاً من الحياة.

 ثالثها – أنها محاولة لإحياء تراث موسيقي أندلسي، ولإظهار مساهمة العرب الريادية في عالم الموسيقى باعتباره فناً راقياً باستعادة حداثية مدنية بالضدّ من المحاولات التي تريد تقبيحها وبالتالي تحريمها وتجريمها باعتبارها «بدعة مستوردة» أو «ضلالةً» لا تستهدف سوى التحلّل وإثارة الغرائز والمجون.

 ورابعها – استعادة لدور العرب في الأندلس التي كانت تعيش عصراً ذهبياً في ظلّ التنوّع والتعدّدية بما يعمّق التواصل الثقافي والتفاعل الحضاري والعيش المشترك في ظلّ مجتمع متعدّد الثقافات تعزيزاً لقيم السلم والتضامن والتسامح والتعاون.

 اضطرّ زرياب إلى الهرب من بغداد التي كانت تعيش مجدها خشيةً من الانتقام منه بسبب غيرة نشبت في قلب أستاذه إسحاق الموصلي حين قدّمه إلى هارون الرشيد فنال إعجابه، لكن نوازع الشر سرعان ما تحرّكت في أعماقه فهدّده ليرحل بعيداً عن بلاط الخلافة، فاتجه صوب الأندلس، ثمّ جاءته دعوة من الحكم بن هشام لاستقباله في قرطبة عاصمة الأندلس، حققها لاحقاً نجله عبد الرحمن الأوسط بعد أن توفّيَ والده، وهذا الأخير كان مولعاً بالفن والثقافة، ولزيادة التكريم خرج بنفسه وحاشيته لاستقبال الضيف زرياب وعائلته وأكرمه خيراً وغمره بالهدايا والعطايا.

 كان زرياب داكن البشرة وذا صوت عذب لذلك كنّيَ ﺑ «زرياب» على اسم الطائر الأسود ذي الزقزقات الجميلة، وقد ولد في العام 789ﻡ ( 173ﻫ)، وتوفي العام 857 ﻡ (243 ﻫ) واسمه الحقيقي أبو الحسن علي بن نافع.

 كان وصول زرياب إلى الأندلس حدثاً كبيراً، فسرعان ما ترك بصمته الواضحة على الحياة الثقافية والاجتماعية في المجتمع الأندلسي، ولم يكن فنّه مقتصراً على الموسيقى، فقد أشاع طريقة حياته في الإتيكيت والأناقة وتسريح الشعر وتنظيف الأسنان بمادة أشبه بمعجون الأسنان التي نعرفها اليوم، واستخدم الأدوات والآنية الزجاجية لأول مرّة، واختار الثياب للفصول المختلفة من السنة، كما اهتمّ بنوع المأكولات وطريقة تقديمها على المائدة، وهو الذي ابتدع تناول الحساء «الشوربة» في البداية، ثم الوجبة الأساسية كاللحوم وغيرها، وبعد ذلك تناول الحلويات والفواكه، واشتهر بطريقة تقديم الفطائر المحلّاة بالعسل والمحشوّة باللوز والسمسم، وقد أقبل الناس على ذلك مفتونين به ومعجبين بأدائه ومستمتعين بطريقة الأكل تلك، وحتى اليوم فإن المطاعم الفرنسية، بل أشهر المطاعم العالمية تقدم الأكل على الطريقة الزريابية.

 مزج زرياب بين الثقافة العباسية والثقافة الأندلسية، وأنشأ معهداً موسيقياً يُعدّ أول معهد في العالم، واستقطب الفن من المشرق والمغرب، وجدّد اللون الموسيقي للغناء في الأندلس، خصوصاً أنه يرتكز على ثقافة موسيقية بغدادية، وكانت بدايته مع الموسيقي الكبير والأول إسحاق الموصلي، كما استقطب عدداً من النساء القادمات للأندلس لتعلّم الغناء منهنّ عايدة المدنية وقمر والعجفاء وكنّ من الجواري.

 ومن إنجازاته الأخرى أنه أدخل الشطرنج إلى أوروبا. وكان يحفظ حوالي عشرة آلاف أغنية ولحن عن ظهر قلب. ووضع أصولاً منظِّمة للغناء لبلاد المغرب العربي، كما أن آلة الغيتار (القيثارة) التي نعرفها اليوم نقلها العرب إلى أوروبا على هيئة أداة العود، ثم أضاف زرياب وتراً خامساً لها ما أدّى إلى ابتكار آلة قيثارة الفلامينكو، كما يعود له اكتشاف أشهر العطور.

إن استذكار زرياب وتخليده إنما هو استعادة لدور العرب التاريخي بالأندلس في التعامل مع المجتمعات المتعدّدة الثقافات، وكان ذلك الدور وراء حضارة شبه الجزيرة الإيبيرية التي امتدّ تأثيرها إلى أوروبا. ولم يكن بإمكان زرياب عمل كل هذا التأثير لولا انفتاح الأندلس وتسامحها وقبولها الآخر، وهي امتداد للحضارة العربية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"