وقف الحملات الإعلامية أم وقف النار؟

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.نسيم الخوري

دار نقاش في المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع الفرنسي حول أحوال اللغة الفرنسية في العالم، وكان السؤال الأهم: هل إن الشاشات المتنوعة والمتعددة الأبعاد والوظائف وراء هذا الانهيار السياسي واللغوي فعلياً، أم أن أهل السلطات قد تخلّوا عن مقوّمات سلطاتهم، وانبهروا بالشاشات المعاصرة واستغرقوا فيها ملاذاً وحيداً لهم لإظهار سلطاتهم المفقودة أو تعويضها؟ أهي الملاذ فعلاً أم مركز تجمّع السلطات بمختلف أشكالها ومراميها وأساليبها؟

 إنّ من مهمّات هذا المجلس القيّم والمعروف ب csa منذ إنشائه (17-1-1989) هو مراقبة صارمة لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة باللغة الفرنسية تصل إلى حدود التنبيه خطيّاً لأيّ مذيعٍ أو صحفي يلحن بلغته الفرنسية باعتبار أنّ «الفرنسية لغة مقدّسة» في العرف الرسمي.

 الحقيقة أن هذا المجلس هو الصيغة الراهنة لمراقبة الإعلام ولغة الإعلاميين؛ إذ كانت الصيغة الأولى المعنية بالأمر تُسمّى: «السلطة العليا للاتّصالات السمعية البصرية» (1982-1986) وكان لي شخصيّاً الحظوة بفترة تدريبية هناك في 1982، وبقيت أتسلّم المجلّة الشهرية التي تصدر عن المجلس الأعلى حتى 1994. ولقد قرأت مقالاً بالفرنسية يحاول كاتبه أن يرمي أو يحمّل تراجع اللغة الفرنسية اليوم لا للعولمة وتنوع الشاشات والاتّصالات، بل للمهاجرين من كافة بلدان العالم، خصوصاً المسلمين نتيجة كوارث تهجيرهم بسبب ما يسمى «الربيع العربي» وتقصير دولهم وأنظمتهم، فهؤلاء المهاجرون لا يلحنون فحسب، بل يجهلون لغتنا ولغة البلدان الأخرى، لذا فهم يحمّلون فرنسا وأوروبا أعباءً مالية وثقافية ملحوظة. طبعاً، يمكنني أن أقبل هذا الكلام في ميدانه الصحيح، لكن لا يمكن عدم ربطه بالانتخابات الفرنسية الحامية ولربّما في النص أبعاد سياسية باعتبار أن فرنسا بمرشحيها تشحذ الألسن نحو مزيدٍ من التشدّد مع المهاجرين والمسلمين خصوصاً. وكي أكون منصفاً، أُعلن أنّ هناك تراجعاً وإرباكاً ملحوظين كان من السهل ملاحظتهما في مجال تقديس اللغة الفرنسية، وذلك عبر السنوات الأخيرة من أرشيف مجلة ومنشورات المجلس الأعلى الذي قدّمته هدية قيمة ل«المؤسسة اللبنانية الحديثة» التي أسّسها الأب خليفة مطبّقاً فيها فلسفة مدام مونتيسوري التربوية، بحيث تستقبل تلك المؤسسة العريقة طالباتها وطلابها من مختلف الطوائف والمذاهب وفيها الكثير من أولاد الرعايا والدبلوماسيين العرب والأجانب.

 دفعتني تجربتي في المجلس الفرنسي أن أقترح إنشاء مجلسٍ مماثل في لبنان، سُمّي «المجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع في لبنان» تمّ تأسيسه في العام 1994، بعد مناقشات طويلة ثمينة ومباشرة بعد عودة البرلمانيين من الطائف حاملين وثيقة أهمّ ما فيها: إعادة تنظيم الإعلام المرئي والمسموع في لبنان. ولقد لفت نظر الرئيس حسين الحسيني يومذاك الذي كان رئيساً للبرلمان اللبناني ويعتبر نفسه أحد عرّابي اتفاق الطائف (بالطبع بعد العرّابة الأبرز المملكة العربية السعودية والرئيس الشهيد رفيق الحريري والبطريرك مار نصرالله بطرس صفير ومباركة الأمم المتّحدة وأمريكا تحديداً عبر سفيرتها في لبنان آنذاك ابريل جلاسبي (الطبّاخة الشهيرة المُقيمة في أحاديث السياسيين وذكرياتهم في تجهيز ورقة اتفاق الطائف في بيروت، وهي تعيش بين كاليفورنيا وكيب تاون، حيث تملك شقّة هناك تُطلّ على الجبل وتشعر فيها وكأنّها، على حدّ قولها، ما زالت تعيش في لبنان الذي تعشقه ولها فيه صداقات وتتابع أخباره وكأنها لم تتركه).

 أعود إلى المجلس الأعلى اللبناني الذي وُلد من دون صلاحيات تقريرية، بل له صفات استشارية مرتبطة بوزراء الإعلام في بلد فلتت فيه عقالات الألسن واشتعلت الرؤوس المتشنجة بما تجاوز اللغة وقداستها وقضايا فصاحتها وعامياتها، إلى العبث والارتجال بالضيق العربي الذي جعل لبنان الغارق في الكوارث حتّى أذنيه هدفاً خطيراً يتشاطره مسؤولوه بعجزهم الفاضح والكامل. تبقى هنا مجموعة من الشاشات اللبنانية الكثيرة المتنافسة الفقيرة التي تبدو وكأنّها قد تؤلف شاشة واحدة حيث الطراوة في عاميّات الكلام والأشكال وكأنها من ضمن إيقاعات العصر غير اللبناني ولا العربي ولا حتّى الغربي، منفِّرة المشاهدات والمشاهدين بعلك المقترحات والأفكار والأخبار ووقائع المؤتمرات والندوات وحصيلة الطاولات المستديرة والمقابلات السخيفة والمقالات، وكلّ هذا يكوّن ظواهر كثيرة مترددة تنقل عن بعضها بعضاً، لكنّها لا تقول شيئاً لأنّها في أحجامها وأقوالها ومقترحاتها لا تفعل شيئاً، وكأنّها أيضاً في حالة عجز، في هذا الزمن الصعب لوقف هذه الانهيارات المحلية ومع أشقائنا العرب.

 يبدو لي أن أهمّ ما لا يتذكّره السياسيون والإعلاميون الذين يبشّرون بالتفجير والحروب المقبلة هو أنّ تاريخنا الطري لطالما صرخ ويصرخ: وقف الحملات الإعلامية والسياسية قبل وقف إطلاق النار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"