عادي
قراءات

«الديكاميرون»..ألف ليلة وليلة الإيطالية

22:07 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة: «الخليج»

«الديكاميرون» هي تحفة جوفاني بوكاتشو النادرة؛ بل إحدى روائع الإبداع العالمي، على مر العصور، حالة فريدة من الحكي المتواصل بلا انتهاء، وعالم ساحر يتولد من مزيج الواقع والخيال، بلا خطوط حمراء ولا تخوم، مئة قصة أو حكاية، تتوزع في الجغرافيات والتواريخ والأساطير، تكشف في عمقها الجوهر الإنساني الدامغ لجدلية الروح والجسد.

قام د. عبدالله النجار وعصام السيد، بإنجاز الترجمة الأولى عن الإيطالية مباشرة، وتجمع بين الدقة المحافظة على السمات الأسلوبية لبوكاتشو، وسلاسة الأداء اللغوي والأسلوبي في آن.

بعد دراساته الأولى في فلورنسا بإيطاليا انتقل بوكاتشو إلى روما، وكان قد درس الحقوق ثم الآداب، وذلك في فترة كان العالم يتهيأ فيها للانتقال من العصور الوسطى إلى الحديثة، وكان من دواعي هذا الانتقال وشروطه تغير نظام المجتمع، وأن تختفي سيادة المجتمع الإقطاعي وقوامه الملكية الواسعة للأرض وما عليها.

وكان طبيعياً أن ينخرط بوكاتشو في الدراسة القانونية، لكنه في ميناء نابولي كان يقف على طاولة، يبيع العملات ويشتريها، ويتردد على مكتبة القصر الملكي العامرة بالكتب، وفي مقدمتها العلوم العربية، وهناك تعرف إلى عدة كتب منقولة إلى الإيطالية، عن العربية، منها ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة.

كانت المخطوطات وتجارتها رائجة في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، قرون النزعة الإنسانية التي استعادت التراث اليوناني اللاتيني، وعادت الكلاسيكية لتجد مكانها، ويجد بوكاتشو نفسه في جو مفعم بالحماسة للأدب، وقرأ دانتي، وفي هذه الفترة كتب أعماله الأولى، التي عرفت بأنها الأعمال الصغرى.

هكذا اكتمل تكوين بوكاتشو وعاد إلى فلورنسا ليقيم فيها، وأتم عمله الأكبر «الديكاميرون» عام 1351 وكرس جل وقته لدراسة دانتي وعقد محاضرات عن «الكوميديا الإلهية» ورحل عن الدنيا عام 1375 بعد فترة قضاها معذب الضمير، بعد أن انهالت عليه الاتهامات من رجال الدين المسيحي، بسبب كتابته «الديكاميرون» الذي قام هو نفسه في لحظة يأس بحرقه.

أوصى بوكاتشو بأن تكتب على شاهدة قبره: «تحت هذه الشاهدة ترقد رماد وعظام جوفاني، عقله بين يدي الله، وهو مزدان بجدارات متاعبه في الحياة الفانية» وتلخص هذه العبارة شخصية بوكاتشو، ليس فقط في مضمونها، وإنما أيضاً في أسلوبها، ففي إجماع نقاد الأدب كان بوكاتشو أعظم كتاب النثر في إيطاليا وأوروبا كلها في القرن الرابع عشر.

كان بوكاتشو مضطراً للدفاع عن نفسه، نظراً للمحتوى غير العادي للحكايات، التي يسردها في «الديكاميرون» وقد استشعر وهو يكتبها بأنها سوف تثير ردود أفعال غاضبة ضده، وهو ما يؤكد أنه كان قادراً على تمثل القارئ الافتراضي له، وفهم واستيعاب طرق التلقي والتأويل لما يكتبه من حكايات، في السياقين التاريخي والاجتماعي للعصر الذي يعيش فيه.

«الديكاميرون» كلمة يونانية تعني عشرة أيام، ويتوجه بوكاتشو في كتابه إلى النساء على وجه الخصوص؛ حيث يرغب في تسليتهن والترويح عنهن، لأنهن محرومات من وسائل اللهو والتسلية المتاحة للرجال، كما هو الحال في كثير من البلدان، خاصة في تلك الفترة المظلمة في أوروبا.

يضم «الديكاميرون» مئة رواية أو قصة أو حكاية، تروى خلال عشرة أيام، على ألسنة عشرة شباب: سبع نساء وثلاثة رجال، يلتقون في كنيسة «سانتا ماريا» الجديدة ويتفقون على الهرب من هلع وباء الطاعون، الذي اجتاح فلورنسا عام 1348 ويذهبون للعيش في قصر فخم على مشارف المدينة، وفي «الديكاميرون» يتبادل واحد من الأشخاص العشرة كل ليلة قيادة دفة الروايات، التي يحكيها جميعهم عن مغامرات عاطفية أو ملحمية، قد تكون من الواقع أو الخيال، لكنها تهدف إلى تسليتهم وهم قابعون في حدائق القصر في قرية بعيدة، خوفاً من الطاعون الذي أثار الرعب في المدينة، وكأنه كتبها ليستحضر ذكرى حبيبته، التي قضت نحبها، بسبب هذا الطاعون الذي استشرى في أوروبا.

يعتقد النقاد بأن بوكاتشو استوحى الفكرة من «ألف ليلة وليلة»، وأنه روى الحكايات بنفس الطريقة، مازجاً الخيال بالواقع والشعر، وتعتبر «الديكاميرون» تصويراً حياً لمجتمع القرن الرابع عشر في إيطاليا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"