أزمة الحوار العام

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

هناك أزمة في مصر اسمها: «غياب الحوار العام». لا توجد قنوات مفتوحة لبناء التوافقات العامة في القضايا الضاغطة على أعصاب البلد.

 بقدر اتساع الحوار العام على التنوع الطبيعي في المجتمع من أفكار وتصورات وخبرات تتأكد قدرته على بناء التوافقات العامة بلا اضطرابات مؤلمة، أو فواتير باهظة. إذا ما ضاق الحوار العام عن النظر في القضايا الأساسية التي تدخل في شواغل الرأي العام تضيق بالضرورة الثقة العامة في السياسات والتوجهات.

 الناس تتحاور على شبكة التواصل الاجتماعي فيما يعنيها، همومها وقضاياها، أو فيما يطرأ من حوادث وظواهر في بنية مجتمعها من جرائم عنف مستجدة لم يعتدْها المصريون، وتفلّت أخلاقي ولفظي أخذ مداه، وقضايا رشى وفساد وظيفي نالت من بعض كبار المسؤولين، لا فيما يملى عليهم عبر وسائل الإعلام.

 أنصاف الحقائق ليست إعلاماً وأنصاف المعالجات ليست حواراً. الحوار مسألة ندية في تبادل الآراء والتصورات ومسألة إقناع لا إملاء.

 إذا لم تكن هناك قنوات مفتوحة تتمتع بالحرية في إخبار الناس بالحقائق ويجري عبرها تبادل الآراء فإنه ليس بوسع أحد أن يعرف ما قد يحدث غداً. عندما نجهل المجتمع الذي نعيش فيه، تفاعلاته وحقائقه، فإنها مأساة حقيقية.

 وعندما لا نتوافق بما هو كافٍ وضروري في القضايا الوجودية فإنها مأساة مضاعفة. الحوار بمعناه الحقيقي أحد شروط التقدم إلى المستقبل بثقة.  من حق مصر أن تتنفس دون توجس فتحاور نفسها بمسؤولية حقيقية في أولوياتها وقضاياها ومعاركها وسبل تجنب المخاطر المحدقة بها.

 هذه مسألة حرية تدخل في ضرورات بناء دولة حديثة مدنية وديمقراطية حقاً، كما أنها مسألة أمن قومي في لحظة تحولات عاصفة في النظامين الإقليمي والدولي.

 بنظرة على أحوال الصحافة فإن أوضاعها والقيود التي تحكم تغطياتها لا تسمح لها بدور حقيقي في إدارة أي حوار عام واصل إلى جمهوره ومؤثر في توجهاته.

 إذا ما ضاقت مساحات الحرية المتاحة تخسر الصحافة المصدر الرئيسي لقوتها وتتراجع مستويات توزيعها والثقة العامة فيما تنشره من أخبار وآراء.

 بالأرقام فإن معدلات توزيع الصحف والمجلات المصرية مجتمعة، باتت أقل مما كانت توزعه جريدة خاصة واحدة قبل عشر سنوات!

 لماذا حدث ذلك التدهور الفادح في مكانة الصحافة المصرية العريقة؟ إيقاع العصر الإلكتروني سحب من الصحافة المكتوبة قدرتها على المنافسة في متابعة الحركة السريعة للحوادث المتدفقة.

 هذه نصف الحقيقة، النصف الآخر أنها لم تجتهد في التكيف مع حقائق العصر، كأنها تنتظر كلمة النهاية دون مقاومة تقريباً.

 بصياغة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فإن «أي مهتم بالشأن العام يتابع الخبر صوراً متلاحقة على الشاشات المضيئة، وهو يطلب من الكلمة أن تروي له قصة ما جرى على مهل لأن ذلك دورها». «الكلمة في جريدة تفصل ما وراء الخبر وتروي ما لا تستطيع الصور أن تصفه من دخائل ومشاعر».

 هذا مستوى مهني مختلف يستدعي تدريباً مختلفاً وبيئة حرية مختلفة. و«هذا ما أدركته كبريات الصحف العالمية وعملت على أساسه في العصر الإلكتروني، فاستعادت ثقة قرائها وارتفعت من جديد أعداد توزيعها ك«واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» الأمريكيتين بالتحديد.

شعار «نيويورك تايمز» يلخص فلسفة الصحافة الجديدة في عصر مختلف: «كل ما يساوي أن ينشر».

«الأمر نفسه في الصحافة البريطانية؛ فقد زاد توزيع «ديلي تيلجراف» و«أوبزرفر» ونجحت «إندبندنت» في تجاوز أزماتها المالية».. «راهنت كبريات الصحف العالمية على أن ما فقدته الكلمة بالجدية تعوضه بالعمق». لم يحدث ذلك عندنا.

 في فورة التفاعلات الكبرى قبل وبعد ثورة «يناير» لم يكن المواطن المصري يشاهد غير إعلامه التلفزيوني، لكنه في أوقات لاحقة انصرفت قطاعات كبيرة من الرأي العام عن متابعته وأدارت المؤشرات إلى قنوات إقليمية ودولية أتاحت أمامه فرصاً أكبر للاطلاع على ما يحدث في العالم، وفي بلده نفسه. هذا وضع مخلّ لا بد من إصلاحه.

 كل شيء قابل للحوار بالانفتاح الضروري والجدية اللازمة.. المسؤولية قرينة الحرية. 

المهنية والموضوعية شرطان آخران لجدية الحوار العام فيما يشغل المواطن.

 فتح قنوات الحوار العام قضية تماسك وطني في أوقات صعبة، أن نسمع الأصوات المختلفة من كافة التخصصات الأكاديمية والحساسيات السياسية يقوي المجتمع ولا يضعفه يرفع سقف الثقة العامة في الحركة إلى المستقبل.. العكس صحيح تماماً وعواقبه وخيمة.

 وبنظرة ثالثة على شبكة التواصل الاجتماعي نكتشف ببساطة أنها هي التي تصنع ما يسميه خبراء الإعلام «أجندة المدينة»، تشير إلى الأزمات وتتفاعل معها، لكنها بالوقت نفسه لا توفر بيئة مناسبة لإدارة حوار عام يناقش بعمق الحوادث والظواهر، ويبحث بجدية في الأسباب والدواعي وسبل درء الأخطار المحدقة.

 إذا ما غابت قنوات الحوار العام بالمعنيين السياسي والإعلامي فإنها العشوائية لا محالة.. هذا آخر ما تحتاج إليه مصر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"