توازن المصالح في منطقة الخليج كخيار استراتيجي

00:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبدالله أحمد آل علي *

أحدث الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، في أغسطس/ آب، تحولاً استراتيجياً في منطقة أوراسيا أو رقعة الشطرنج الكبرى، كما يسميها زبغينو بريجينسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جيمي كارتر في الفترة (1977 1981) ومُنظر الجغرافيا السياسية. وكان بريجنسكي قد نشر كتاباً بعنوان: «رقعة الشطرنج الكبرى»، رأى فيه أن ممارسة السيطرة على أوراسيا هي التي أسهمت في الهيمنة الأمريكية على العالم منذ نهاية الحرب الباردة، وفي استمرارية التفوق الأمريكي في القرن الحادي والعشرين. 

 ويفسر بريجنسكي ذلك بأن أوراسيا هي موئل لمعظم دول العالم؛ من حيث تعداد السكان، وتتسم بوفرة الموارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي إلى جانب القوة النووية، فهي تمثل رقعة الشطرنج الجيوبوليتية التي ترى أمريكا أنه لا بد من الاعتراف بتفوق قوتها أو سيطرتها فيها، ومنع ظهور أي ائتلاف معاد يمكن أن يشكل تحدياً لهذا التفوق؛ وذلك يندرج ضمن العوامل التي مكنت الولايات المتحدة من الانفراد كقوة متعددة الأذرع عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

  ويجب أن يُقرأ الانسحاب من أفغانستان في ضوء ما بات يُعرف ب«الخروج أو الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط». فنهاية العام الحالي قد تشهد تنفيذ السياسة الأمريكية المتعلقة بالانسحاب من الشرق الأوسط بشكل كامل، وهي السياسة التي تُرجمت على أرض الواقع بالخروج من أفغانستان، والاتفاق مع الحكومة العراقية على الانسحاب الكامل من العراق قبل نهاية العام. وبالنسبة للقوات الأمريكية التي لا تتجاوز 900 عنصر عسكري في سوريا، فلم يتقرر الأمر بشأنها بعد، ولكن المقدر هو أنها سوف تتقلص إلى حد كبير خلال الفترة المقبلة.

 وقد ترتب على هذا التحرك الاستراتيجي الأمني أو إعادة التموضع من قبل الولايات المتحدة في أوراسيا والشرق الأوسط، ردة فعل منطقية وواقعية من قبل شركائها الفاعلين في النظام الإقليمي العربي؛ وذلك لملء جزء من الفراغ الأمني الاستراتيجي الذي خلّفته القوة الأمريكية، وتحولت سياساتهم الخارجية جزئياً من الاعتماد على استراتيجية توازن القوة إلى الاعتماد على استراتيجية توازن المصالح في الإقليم.

 وهذا التغير في استراتيجية السياسة الخارجية للدول الإقليمية، وعلى رأسها دولة الإمارات والسعودية وتركيا، يمكن وصفه بالتغير الجذري أو إعادة هيكلة لسياساتها وسلوكاتها الخارجية. وقد دعم إعادة الهيكلة أو التغير الجذري المذكور عوامل تتعلق بالركود الاقتصادي العالمي؛ بسبب جائحة كورونا، وانخفاض أسعار الطاقة العالمية؛ والأزمات والمشكلات الاقتصادية التي تعانيها بعض دول المنطقة.

  والواقع أن هذا الفراغ الأمني الاستراتيجي، أوجد حرية وانطلاقة جديدة للفاعلين الجدد في الإقليم، وربما يكون هذا الأمر تصحيحاً ضمن مسار العلاقات الدولية، فيه بعض التحرر من قيود البروتوكول التوجيهي في إدارة التفاعلات في منطقة الخليج العربي، ما ترك فرصة لمبادرة بعض الدول في أن تضع لنفسها إطاراً للتواصل المباشر، ومناقشة القضايا ذات الصلة بحرية أكثر وواقعية في الجوانب الأمنية والاقتصادية من دون دخول أي وسيط لا تنسجم توجهاته مع التغيرات والمتغيرات الحالية في المنطقة. ولعل النقطة المهمة هنا هي أن دول الخليج العربي أدرى بالتحديات التي تخصها، وكيفية مواجهتها.

 وقد لاحظنا في الفترة الراهنة أن مبادرة السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة تجاه دول المنطقة ترجمت عدداً من سمات توازن المصالح مع الشركاء والفاعلين المؤثرين، عبر زيارات مكوكية إلى بغداد ودمشق وأنقرة والدوحة ثم طهران.. تم الترتيب لها من خلال حوار أمني استباقي، تدعمه وتحفزه حزمة من المشاريع الاقتصادية، تؤكد جدية هذا التواصل المباشر والحوار المبني على المصالح المشتركة المؤكدة، والتي تؤسس لأرضية صلبة تحقق الغايات الاستراتيجية.

 أوجد هذا التفاعل السياسي الاقتصادي الأمني تفهماً واستجابة للظرف الأمني والاقتصادي الذي تمر به المنطقة العربية بشكل عام، وإقليم الخليج العربي بشكل خاص. ولذلك هي فرصة سانحة وجادة للتمهيد لفتح ملفات تصب في مصلحة المنطقة، منها تسوية الاختلافات وتصفير المشكلات والإنصات المشترك لجميع وجهات النظر في القضايا المتأزمة، والتي لو تفاقمت قد تشجع على تدخلات خارجية لتتولى إدارتها بشكل مختلف عما هو مأمول لتحقيق الأمن والاستقرار لدول الإقليم.

 أخيراً.. إن على دول الإقليم اغتنام الفرصة الجيوستراتيجية بأخذ مبادرة دولة الإمارات الأخيرة كمسار منطقي وواقعي لإدارة الملفات الاستراتيجية للإقليم بمحاوره الرئيسية.. الأمنية والسياسية والاقتصادية، وكذلك تسوية الخلافات، ليس من منظور توازن القوى فقط، ولكن يفترض الالتفات بواقعية وفاعلية أكثر لتوازن المصالح الذي يحقق المصلحة المتبادلة لدول الإقليم، ويؤطر لعلاقة متينة أساسها الاعتماد الاقتصادي المكثف؛ تخلق أساساً للتفاعلات الإقليمية مع القوى العالمية سواء القادمة من الشرق كالصين والهند أو القادمة من الغرب كالولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي.

* باحث متخصص في القضايا الأمنية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث متخصص في القضايا الأمنية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"