حرب الزعامة بين بريطانيا وفرنسا

01:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تشهد العلاقات البريطانية – الفرنسية، أزمات مزمنة، يتصل بعضها بخلافات اقتصادية وجيوسياسية وثقافية راهنة تتعلق إما باختلاف المصالح وتضارب الأجندات بين باريس ولندن، وإما بصراعات تاريخية بين أكبر قوتين استعماريتين في التاريخ الحديث. وقد عادت التوترات بين البلدين إلى الواجهة مؤخراً نتيجة لتعدد التأويلات بشأن بنود البركسيت التي نجم عنها أزمة الصيد في مياه بحر المانش بين الصيادين الفرنسيين والبريطانيين، وجاءت جائحة كورونا لتضاعف من مشاكل النقل بين فرنسا وبريطانيا وبخاصة بعد أن فقد البريطانيون التسهيلات المتعلقة بحرية التنقل ونقل البضائع عبر قناة بحر المانش بسبب مغادرتهم للاتحاد الأوروبي، وذلك علاوة على أزمات أخرى مثل إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا ومشكلة المهاجرين الذين انتقلوا بأعداد كبيرة من مدينة كالي الفرنسية نحو شواطئ المملكة المتحدة.

  وعلى الرغم من الطابع الظرفي للأزمة الحالية التي يبدو أنه قد جرى تطويقها بعد تدخل أطراف أوروبية فاعلة، فإن الخلاف بين فرنسا وإنجلترا سابق من الناحية التاريخية عن الخلاف البريطاني - الفرنسي الراهن؛ إذ تشير مجمل الوثائق والمراجع، إلى أن المواجهة بين البلدين استمرت من سنة 1689 إلى سنة 1815؛ حيث لعبت إنجلترا دوراً رئيسياً في التصدي لطموحات فرنسا التي سعت في مرات عديدة، لاسيما في عهد لويس الرابع عشر إلى الهيمنة على جيرانها الأوروبيين، وهي الطموحات التي انتهت بهزيمة نابليون في معركة واترلو. واستمر التنافس بين البلدين- خارج القارة الأوروبية- على خيرات ومقدرات المستعمرات في آسيا وأمريكا الشمالية وإفريقيا؛ حيث كان هناك سباق محموم بين العاصمتين من أجل الانتشار في كل أرجاء المعمورة للحصول على مكاسب اقتصادية ولنشر الثقافتين واللغتين الإنجليزية والفرنسية في معظم دول العالم.

  وقد مثلت البحرية الإنجليزية والفرنسية أهم أدوات المواجهة بين القوتين من أجل الظفر بالسكر القادم من جزر الأنتيل، وبالعبيد من إفريقيا، والحرير والتوابل من الهند وآسيا، والأسماك والجلود بمختلف أنواعها من أمريكا؛ كما كان للتفوق الذي حققته البحرية البريطانية دور حاسم في انتشار الثقافة واللغة الإنجليزية في أمريكا الشمالية ثم في كل أنحاء العالم وبخاصة بعد أن تمكن المعمرون القادمون من مختلف مناطق المملكة المتحدة من تحويل أمريكا إلى أقوى دولة في العالم، وأن يجعلوا من أمريكا الشمالية قارة أنجلوساكسونية بعد محاصرتهم للمعمرين الفرنسيين في كندا في جيب صغير بمقاطعة الكبيك. 

  ويؤكد المؤرخون في هذا السياق، أن الاستقرار الداخلي الذي عرفته بريطانيا، والاضطرابات الداخلية التي عايشتها فرنسا بعد قيام ثورة 1789، هما عنصران أساسيان كان لهما دور حاسم في تحقيق الانتصار لصالح البريطانيين.

  أما في الفترة الحالية، فإنه وعلى الرغم من تعقد الوضع وتعدد اللاعبين الرئيسيين على الساحة الدولية، فإن التنافس بين لندن وباريس يظل مؤثراً في مستوى العديد من الملفات، لاسيما في أوروبا، فالمملكة المتحدة لا تريد أن تحافظ على علاقاتها القوية مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول الكومنولث، على حساب نفوذها التاريخي في أوروبا؛ ولا ترغب من ثم أن يكون البركسيت سبباً في ضياع مصالحها ونفوذها في القارة العجوز، وتسعى لحرمان فرنسا من استثمار البركسيت لبسط نفوذها في أوروبا؛ وتعمل لندن بموازاة ذلك أيضاً على توظيف الخلاف التاريخي بين دول أوروبا الشرقية والجار الروسي من خلال زيادة الضغط على موسكو ومحاولة التدخل بشكل مباشر في الأزمة الأوكرانية من أجل البقاء كلاعب أساسي في معادلة الأمن الأوروبي.

  وعليه فإن المحاولات العديدة التي بُذلت في فترات متعددة من طرف النخب السياسية في بريطانيا وفرنسا، بغرض المحافظة على علاقة ودية بين البلدين وتكثيف التعاون بينهما في مختلف المجالات وبخاصة بعد افتتاح قناة بحر المانش سنة 1994 والتي سمحت لبريطانيا بالخروج من عزلتها البحرية؛ لم تسهم بشكل فعال في القضاء على الجذور العميقة للخلافات التاريخية بين الغريمين، والتي تعتبر في جوهرها خلافات ذات صلة بحرب الزعامة بكل أبعادها الاقتصادية والثقافية واللغوية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"