الإعلام الرقمي والوباء الكوني

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

من يتأمل تاريخ التفكير العلمي، على مر العصور، يُدرك أنه يأتي في الغالب تزامناً مع لحظة أزمة مجتمعية. كما أن المذاهب السوسيولوجية الكبرى تكون، أحياناً كثيرة، متزامنة في توقيت ظهورها مع اشتداد الأزمات، ما يُسارع من إيقاع الحراك الاجتماعي. فالعقل الفاحص يدرك أنه مسؤول عن مصير ذاته، وهي مسؤولية كبيرة وثقيلة خاصة وقت الكوارث والأزمات المصيرية. 

 لذا فالاختراعات العلمية أصبحت ضرورية لا محيد لنا عنها، وليست مجرد رفاهية تثري حياتنا، وترفع من مستوى معيشتنا. بل هي، في حقيقة الأمر، ولدت لأسباب حتمية، وكانت من ورائها عقول آمنت بها وبجدواها، وتفتقت عبقريتها لحل تلك الأزمات، وبذلت من أجلها كل طاقاتها؛ فكان لها المجد والشهرة وإثبات الذات، ولنا الأمن والأمان والرفاهية، ولأممها الفخر بإنجازاتها وقدرتها على إثبات وجودها في العلم والإنتاج. وكلما أسهمت الأمة في ذلك بنصيب وافرٍ كانت محط احترام وتقدير غيرها من الأمم.

 ولكن مع ذلك أظهرت جائحة كورونا حجم تأثير الإعلام الرقمي في مستوى العالم، وخاصة بين فئة الشباب والمستويات التعليمية المنخفضة، التي تستخدم بكثافة وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على المعلومة. ورغم ما يكتنف تلك الوسائل من كذب وزيف، خصوصاً عندما تفتقر المعلومات التي يتم نشرها عبر تلك الوسائل، في غالبيتها، إلى التوثيق والتحكيم، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار المعلومات الكاذبة، إلا أن تلك الوسائل أصبحت مصدراً رئيسياً للمعلومات، ولاسيما فيما يتعلق بجائحة كورونا.

 وبدت المشكلة أوضح في ما يخص اللقاح، حيث انتشرت موجة من التضليل الممنهج تحذّر المشاهدين والمستمعين من أخذ اللقاح، بحجة أن الهدف منه هو قتل الشعوب والخلاص من الأعداد الوفيرة من البشر، وللأسف يتم نشر هذه المعلومات من قبل بعض مدعي العلم الذين أتقنوا استخدام الألفاظ العلمية النابعة من عمق علوم البيوتكنولوجي، بهدف جمع المال لا أكثر من خلال زيادة أعداد المشاهدين ولا سيما على «يوتيوب». غير أن المتلقين يأخذون تلك المعلومات على أنها حقيقة، ما أدى إلى ظهور تيار عالمي واسع رافض لفكرة اللقاح، رغم أنه الوسيلة الوحيدة المتوفرة الآن، للحماية من الفيروس القاتل. وقد رصد تقرير معهد «رويترز» السنوي العاشر عن الإعلام الرقمي، «ازدياد معدلات المعلومات المزيفة التي تبثها منصات التواصل الاجتماعي. وأن ذلك بات يمثل تحديات جدية أمام وكالات الأنباء والصحف التي تعتمد نشر الأخبار الصحيحة من مصادرها من غير تدليس أو غش». 

 واعتمد هذا التقرير على دراسة مسحية شارك فيها 92 ألف شخص، من 46 دولة في أوروبا وأمريكا وشرق آسيا وإفريقيا. ورصد التقرير «ثبات معدلات الثقة في الأخبار المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يعني اتساع الفجوة بين الأخبار بشكل عام، وتلك المعلومات المنتشرة في الفضاء الإلكتروني بوجه خاص». ويوضح التقرير أن «استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأخبار لا يزال قوياً، خصوصاً بين الشباب وذوي المستويات التعليمية المنخفضة، مع شيوع تطبيقات المراسلة مثل واتساب وتليجرام في الجزء الجنوبي من العالم، وهو ما يعني تنامي القلق من المعلومات المضللة، خصوصاً حول الجائحة».

 والواقع أن منصات التواصل الاجتماعي ليست مصدراً من المصادر الموثوقة للحصول على المعلومة الدقيقة الصحيحة، بل هي بين حالتين، فإما أن تكون مأجورة ومسيسة، ويكون الهدف الرئيس منها زرع البلبلة وتعميق الخلافات، وإما أن تكون ربحية تهدف إلى جمع المال. أما موضوع تقديم العلم الصحيح والنافع فهذا أمر يندر وجوده على تلك المنصات التي ينحصر تفكيرها في تحقيق الربح المادي فقط وليس الفائدة العلمية. وتبدو المشكلة ضاغطة على مختلف دول العالم بسبب عجز الحكومات عن وقف سيل المعلومات المتدفق في أقنية الإعلام الرقمي، فكيف يمكن فلترة تلك المعلومات، وانتقاء المعلومة المفيدة فقط؟! قطعاً لا يمكن التحكم بالإعلام الرقمي إلا عن طريق الانغلاق على الذات، وقطع الصلات الرقمية مع العالم الخارجي، وهذا أمر لا تطيقه أية دولة، لأنه سيجعلها في عزلة عما يدور حولها، ما يؤدي إلى تخلفها عن ركب التطور التكنولوجي.

 ومن هنا فإن المسؤولية في هذه الحالة تقع على عاتق الشعوب التي ينبغي عليها أن تتلقى المعلومة الصحيحة من منصات الإعلام الحكومية الموثوقة لديها، أو من الوكالات العالمية المعروفة التي لا تبيع الثقة التي كونتها عبر تاريخها الإعلامي الطويل، مهما كانت المغريات التي تتعرض لها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"