ألمانيا في مواجهة حلفائها

01:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تعيش ألمانيا وضعاً داخلياً وخارجياً بالغ الدقة، فهناك على المستوى الداخلي تكتل سياسي جديد لا يملك الخبرة اللازمة لمواجهة التحديات الكبرى، وهناك أيضاً على المستوى الخارجي ضغوطات دولية من طرف الشركاء في عواصم الاتحاد الأوروبي ومن قبل الحلفاء في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، من أجل دفعها إلى اتخاذ قرارات أكثر صرامة بشأن الأزمة في أوكرانيا وللذهاب بعيداً في تسليط عقوبات مؤلمة على موسكو وتقليص تبعيتها للغاز الروسي، لاسيما بعد التطورات التي شهدها الملف الأوكراني، نتيجة إقدام القوات الروسية على غزو أوكرانيا.

  ويمكن القول إن ألمانيا شهدت خلال السنوات القليلة الماضية مواجهة متصاعدة مع حلفائها الغربيين بسبب رفضها الانخراط بشكل قوي في الصراع مع روسيا، وبالتالي فإنه وعلاوة على الانتقادات التي وجهتها لها القيادة الأوكرانية بسبب رفضها إرسال أسلحة إلى منطقة النزاع، قبل أن تتراجع في الأيام الأخيرة وتقرّر إرسال أسلحة دفاعية إلى أوكرانيا لتخفيف الضغط الإعلامي المسلط عليها؛ فإن الحلفاء الغربيين في حلف الناتو وعلى رأسهم فرنسا وبريطانيا باتوا يعتقدون أن ألمانيا تشكل الحلقة الأضعف في حلف الناتو، وأن ترددها في تبني سياسة متشدّدة ضد روسيا، يشجّع موسكو على مواصلة، ما يصفونه بسلوكها العدواني ضد جيرانها.

  ويعود هذا الموقف الألماني المسالم بشأن القضايا الدولية ورفضها الانخراط في الخيارات العسكرية لحلفائها الغربيين سواء تعلق الأمر بالملف الروسي أو بملفات أخرى، إلى رغبتها في أن تكون قوة سلام وليس قوة حرب، وتسعى من ثم إلى أن تصبح زعيمة لأوروبا بناءً على قوتها الاقتصادية والعلمية. وتعتقد برلين، بحسب ما تشير إليه معاهد ألمانية متخصصة، أن التبعية الاقتصادية المتبادلة بين الدول، يمكنها أن تكون الحل الأفضل لنزع فتيل الحروب، ويمكن بالتالي دفع روسيا إلى تعديل عقيدتها العسكرية من خلال إشراكها في مسار اقتصادي أوروبي متكامل.

 وعلاوة على هذا الخيار السلمي الذي يميّز السياسة الخارجية الألمانية، وبخاصة مع الوزيرة الحالية بيربوك زعيمة حزب الخضر التي أكدت على أنها ملتزمة بدبلوماسية موجهة بالقيم قبل أن تعدّل جزئياً من موقفها ليتناسب مع استثمار البرلمان الألماني للضغوط التي مورست على بلاده من أجل اتخاذ قرار تاريخي بتخصيص ميزانية ضخمة لتطوير الصناعات العسكرية؛ فإن هناك ما يشبه القناعة لدى الكثير من الألمان في المجتمع الذي تشكّل منذ الخمسينات من القرن الماضي، أن دولاً غربية كبرى مثل بريطانيا وأمريكا، عادة ما تستثمر قدراتها في تأجيج النزاعات العسكرية، وتجعل منها أداة للمحافظة على زعامتها للعالم؛ وفضلاً عن ذلك فإن المعطيات التاريخية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية تشير إلى أن العدد الأكبر من القتلى في هذه الحرب سقط في معارك الجيش النازي مع السوفييت، وذلك ما يجعل الألمان يشعرون أنهم يتحملون المسؤولية الكبرى في سقوط عدد مهول من الضحايا على الجبهة الروسية.

 ويرى البعض أيضاً أن إمكانية انخراط ألمانيا في الأزمة الأوكرانية قد يُرسل رسائل خاطئة بأن برلين تدعم سكان غرب أوكرانيا الذين ساند بعضهم القوات النازية، وكانوا يشكلون من الناحية التاريخية جزءاً ممّا يسمى بمقاطعة غاليسيا التي كانت تابعة للممالك والإمبراطوريات البولندية والجرمانية والمجرية التي حكمت شرق ووسط أوروبا؛ وذلك على حساب سكان شرق أوكرانيا الناطقين بالروسية والمدافعين عن النفوذ الروسي في بلادهم.

 ونستطيع أن نخلص إلى أن تجربة ألمانيا مع حلفائها الغربيين تجعلها تعي جيداً أن جزءاً من التطورات التي تحدث حالياً في أوروبا، يحمل العديد من الدلالات التاريخية، لأن مصالح دول الشمال بقيادة السويد وهولندا ما زالت مترابطة مع المصالح الأنجلوساكسونية بقيادة بريطانيا وأمريكا، ومازال السلوك الفرنسي القائم على المزايدة وعلى البلاغة الجوفاء وعلى تحيّن الفرص، على حاله. وهذه الوضعية الدولية والإقليمية الشديدة التعقيد هي التي تجعل برلين تحسب بدقة كل تحركاتها، قبل أن تتخذ قرارات متسرعة قد تعيدها إلى مربع المواجهة مع إمبراطوريات الشرق الغامض.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"