أوكرانيا والانعطافات الحاسمة

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

عندما تقرأ في الألوان بقايا للحياة المتفجرة في جسد الموت، وترى جنونها النهاري في حلكة أشد عتمات الليل، وتبلغ بها هوس الاشتعال مع ضربات الصواريخ والقاذفات التي ترعد في السماء، فتحرق الأخضر واليابس على وجه الأرض، فإنك ستمسي تقول: إن قوة الشر في الإنسان منتصرة في النهاية على إرادة الخير والفضيلة، لتعيد من جديد دورة الحياة والموت.

 إن استدعاء تاريخ الصراعات الغابرة في المصائب الكبرى نوع من اللعب بالنار، عندما يذكو فتيل الفتن بنار الانتقام. هذه الصفحات التاريخية الماضية، قد طويت بجهد جهيد، مارسه علماء السياسة وحكام عقلاء، وأخذ زمناً طويلاً حتى نسيت تلك الوقائع الخاسرة، ثم يأتي اليوم واعظ السياسة، ليجعلها ساحة المواجهة بين الحاضر، باستعمال أسلحة التاريخ والماضي الأليم.

 فاليوم لا صوت يعلو على صوت الصراع الروسي الأوكراني الغربي، بعد أن خمدت ناره لفترة ليست بالطويلة، صحا العالم على عملية عسكرية روسية في أوكرانيا، بعد أن شهدت الشهور القليلة الماضية مفاوضات، لتجنب إراقة الدماء، فكل دولة تبحث عن أمنها وأمن شعبها. ومع تداخل المسارات، وصراع القوى من خلف الستار، تعارضت المصالح، أصبح رفاق الأمس أعداء اليوم، وتم الاحتكام إلى صوت المدفع، بدل الركون إلى صوت العقل، فغابت الحكمة، وعادت فصول التاريخ لتحكي قصتها، التي تشكل الفصل الأكبر من فصول التاريخ القديم والحديث، من جديد، لا صوت يعلو فوق صوت القوة، وقديماً قالوا: «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب» وإن صح هذا في ميزان البشر، إلا أنه ينطبق أكثر على سياسة الدول، خاصة الدول ذات التاريخ العريق، التي شكلت فصلاً من فصول تاريخ البشرية؛ حيث لا يمكن بين يوم وليلة أن تنسى تاريخها، أو تفرط في ماضيها، مهما أصابها من وهن، إلا أنها تستند على ماضٍ يشكل ركيزة انطلاقها من جديد.

 يقيناً لا يرغب إنسان عاقل أن تشتعل الحروب في أي مكان في العالم، ولا تطربه رائحة الدماء، ولا تشجيه أصوات الثكالى، ولا بكاء الأطفال، ولا يسعده منظر الدمار والخراب في أي بقعة من بقاع العالم.

 إن السياسة يجب أن تكون جوهر القيمة الأخلاقية المحركة للقوة العسكرية الفاعلة، عليها أن تقودها نحو أهداف مشتركة في التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إن الشعوب تتساءل، وحق لها أن تتساءل، إلى أين يتجه العالم؟ ما المصير الذي ينتظر أجيالها المقبلة؟ وماذا عن مستقبل التنوع بكل أبعاده والتمازج الحضاري على مختلف المستويات؟ أسئلة مصيرية، وجودية، تؤرق كل متابع لم تغرقه التفاصيل بعد؛ حيث لم تكن هذه الحرب مفاجئة؛ بل كانت متوقعة من قبل الدول ومراكز صنع القرار، بسبب تضارب السياسة بين روسيا من جهة، ودول الغرب من جهة أخرى؛ فروسيا التي ترى نفسها قوة عظمى مساوية للولايات المتحدة، تريد أن يتم التعامل معها من قبل الغربيين على هذا الأساس. وهي كذلك لا تريد أن تكون موسكو على مرمى حجر من حلف الناتو الذي يشكل تهديداً لها ولأمنها، وهذا هو جوهر الخلاف بين الطرفين.

 في أتون هذا الصراع الدولي الكبير تكون الدول الصغرى هي وقود تلك الحروب، وهي الخاسر الأكبر. من هذه النقطة انفجر الخلاف واتسع، وتجاوز الدولتين المتصارعتين؛ بل وتجاوز أهداف الحرب السياسية والعسكرية.

 لذا على العقلاء أن يُغلبوا مصلحة دولهم، وأن يجلسوا إلى مائدة التفاوض؛ لتقريب وجهات النظر، مع مراعاة المصلحة العليا  للطرفين، ومحاولة الوصول إلى ما يُرضي كل طرف؛ حقناً للدماء، وحرصاً على العلاقات بين الشعوب. وعلى الأمم المتحدة أن تقول كلمتها في هذا الصراع، بعيداً عن وصاية الدول الكبرى، وتغليباً للضمير الإنساني الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدول التي لا حول لها ولا قوة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"