عادي

ميلان كونديرا.. الروائي الشبح

23:07 مساء
قراءة 3 دقائق
2002

القاهرة: «الخليج»
يتتبع كتاب «السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا» لآريان شومان، ترجمة وئام غداس، حياة كاتب لطالما اندهش قراؤه من عوالمه الروائية، وقد استعاد جنسيته التشيكية، بعد عمر ناهز التسعين عاماً، كما نال اعتذاراً رسمياً عن حملات الهجوم والمطاردة، التي تعرض لها من النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، وكان قد جرد من جنسيته عام 1979 وهو خارج وطنه، فعاش سنوات منفاه العديدة كاتباً ومدرساً للأدب، مستمتعاً بقدر كبير من الحرية في التعبير، من دون أن يتخلى عن حذره المستمر.

يراجع هذا الكتاب أرشيف تلك المرحلة الغامضة من مسيرة ذلك الروائي، الذي لم يكن يسمح لعدسة كاميرا بأن تلتقط له صورة، أو لصحفي بأن يقترب منه، والكتاب عبارة عن سلسلة تحقيقات مزودة بصور ووثائق تظهر للمرة الأولى، اجتهدت آريان شومان في ملاحقتها وتسجيلها عبر مراحل مختلفة، ثم منحتها سبقاً حصرياً لصحيفة لوموند الفرنسية التي نشرتها في ديسمبر 2019.

جعل المنفى الكاتب حذراً في الحديث عن حياته واهتماماته، أمام الصحفيين والنقاد والمهتمين، فكان يكتفي بالرد: «تريد أن تعرفني اقرأني»، لقد عبرت روايات كونديرا عن توثيق رصين ومخيف للظلم والوحشية الماكرة، فعل ذلك بذكاء مؤرخاً للتاريخ الشفاهي غير المكتوب في كتب مؤرخي النظام الفاشي.

وبالرغم من اهتماماته الواضحة بشؤون بلاده السياسية، ادعى أن الروايات لا ينبغي أن تتأثر بالسياسة: «يجب أن تظل مستقلة» ومع ذلك فإن تجاربه في تشيكوسلوفاكيا وخبرته مع التجربة الشيوعية، قد ألهمت رواياته، فهي ضرورية لبعض قصصه، فبعض أعماله سياسية أيضاً، إذ تعتمد كثيراً على تجربته في محاولة لاستكشاف المشهد الروحي المعقد الذي تسكنه شخصياته، ومع ذلك لم يؤكد كونديرا، وبأي حال من الأحوال، وضعه ككاتب منشق.

إن مصير الفرد في المجتمعات الحديثة يمثل منطقة مجهولة للعديد من الروائيين، هكذا يؤكد محرر الكتاب، لكن هذا الموضوع الشائق والشائك في الآن ذاته، يتنفس حياة جديدة في أعمال كونديرا، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الطريقة البارعة التي تمكن عبرها من دمج الحقيقة مع الخيال، فشخصياته تشغل مرحلة حدد نصفها الخيال ونصفها الآخر حدده التاريخ التشيكي الحديث.

يميل كونديرا إلى العمل على فصول قصيرة، وسرد عرضي متغير، ولهذه الغاية طور كونديرا أسلوباً مقتضباً ومتعرجاً ومثيراً للتأمل بطريقة متشعبة، لكنها محكمة، إذا ما جمعت وأعيد النظر إليها بمجرد انتهاء الرواية، فالسرد لديه يقطع باستمرار، ليظهر كونديرا لإضفاء القليل من الفلسفة أو السيرة الذاتية أو التخمين النفسي لبعض شخصياته.

يظهر هذا الأسلوب بأفضل صورة في رواية «كائن لا تحتمل خفته» على سبيل المثال، والتي تبدأ بالتفكير في فلسفة «العود الأبدي» لنيتشه، وهو انعكاس يعود بذاته ليصبح إحدى الأفكار السائدة في الكتاب.

إن قدرة كونديرا على دمج الفلسفة والتاريخ والأحلام، والموسيقى والرومانسية في رواياته، وعبر قالب متحرك، وقابل للقراءة بمرونة، ما هي إلا شهادة على أصالته وموهبته الاستثنائية، وليس ذلك المزيج لدى كونديرا لمجرد حشد كثير من الأفكار، لكنه حاجة روائية لديه، فغالباً ما تبنى روايات كونديرا على موضوعات فلسفية لا تقل أهمية عن الحوار أو الشخصية.

في مقابلة نادرة أجراها في عام 1989 أوضح أن هناك مشكلات في الوجود البشري لم تعرف الفلسفة قط كيفية فهمها بكل ما تحمله من إرث، أو حتى تفكيكها، لكن عبر ذكاء الرواية وحدها يمكن أن نفهمها.

نجح الروائي لرفضه القاطع كل مرور إعلامي، اختفى من الواقع، بات شبحاً في نظر جمهور قرائه، رواياته ألقت سحرها على ملايين القراء، لا تزال شخوصه الروائية ووضعياتها محفورة لا يطالها النسيان، ولا تمحوها المآسي التي تقتات في الذاكرة، بمنتهى الخفة والبساطة، يلخص بإيجاز أحد الروائيين المقربين منه: «الذكاء الذي تتخلله بساطة الأشياء».

كونديرا أحد أعظم الروائيين الأكثر قراءة، انتقلت اقتباسات من رواياته إلى جميع مواقع التواصل الاجتماعي، واقتبس منه أحد مغني الراب جملاً في أغنية بعنوان «عندي غضب» وخلال هذه الفترة كان كونديرا يرتب لاختفائه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"