السابق واللاحق في الحضارات

00:07 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

حينما يتصل الأمر بأي الثقافات أهمّ من الأخرى، وأيها أكبر أثراً في مجمل التطور الحضاري الإنساني، فإن منطق المفاضلة يجب ألا يكون هو الحاكم في ذلك؛ فما من حضارة، أياً كانت عظمتها، هي نتاج نفسها فقط، أي أنها صافية منقاة من تأثير الحضارات الأخرى، السابقة لها أو حتى المعاصرة لها، فالحضارات كانت دائماً على تواصل وتفاعل متعدد الأوجه، حتى قبل أن تبلغ البشرية ما بات عليه العالم من ترابط بسبب تطور وسائل النقل، وما أحدثته ثورة الاتصال من تدفق للأفكار بصرف النظر عن المكان الذي أنتجت فيه، حتى أصبحنا نكرر المقولة الشهيرة عن أن العالم بات قرية كونية.
والعالم على كل حال ليس «قرية كونية» تماماً، فما زالت هناك أوجه تباعد وصراعات وحساسيات، بين البلدان والقارات، لكن كل هذا لن يطغى على حقيقة أن الثقافات والحضارات تؤثر في بعضها بعضاً، تأخذ وتعطي، وفي هذا الأخذ والعطاء تحدث تحويرات في البناء الحضاري، يجعل من الصعب القول إن ما نحن إزاءه من فن أو علم أو أدب نتاج أمة من الأمم وحدها، حتى لو كان لها الفضل في بلورته وتطويره، لأن ذلك ما كان سيكون ممكناً، بدون إرث سابق جزء كبير منه آتٍ من ثقافات أخرى.
محل نقد شديد كان، وما يزال، مفهوم «المركزية الأوروبية»، أو الغربية عامة، التي ترى أن أوروبا هي صانعة الحضارة الحديثة، ولا يأتي هذا النقد من موقع نكران منجزات هذه الحضارة، وهي منجزات عظيمة بكل تأكيد في مجالات العلم والتقنية والطب والفنون وغيرها، لكن لا يصح النظر إلى هذه المنجزات مفصولة عن تأثر أوروبا في مراحل مختلفة، بحضارات سابقة لها، بما فيها الحضارة العربية الإسلامية.
حتى الإسلام نفسه، كحضارة وثقافة، ما كان سيبلغ الصفة الكونية التي اكتسبها لو بقي محصوراً في الجزيرة العربية مهبط الوحي ونزول القرآن الكريم، فالفتوحات الإسلامية التي بلغت أصقاعاً بعيدة، أدخلت مؤثرات مهمة من ثقافة وحضارة البلدان التي بلغتها الفتوحات، في العراق وبلاد الشام ومصر، ولاحقاً في بلاد المغرب ثم الأندلس، فضلاً عن فارس وآسيا الوسطى والهند وغيرها، لنجد أنفسنا أمام حال نموذجية من التفاعل الديني – الثقافي، والحضاري عامة.
مرةً تحدثنا عن أن الفنون هي الأخرى تهاجر، فالفن، أكان موسيقى أم غناء أم رسماً وما إلى ذلك، حين يبلغ حالاً من الازدهار في بلد ما، سرعان ما يجد طريقه إلى مجتمعات وحضارات أخرى، وهذه الأخيرة تدخل، بدورها، مؤثرات على الوافد إليها من فنون، لتصبح لها، بعد حين، نسختها الوطنية أو المحلية منها.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"