انتخابات لبنان

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

كلّما ألمّت بلبنان أزمة - وأكثرُ أزمات لبنان تنشأ من غياب التّوافق الوطنيّ - وانسدّت الآفاق أمام الانسياب الطّبيعيّ للسّياسة في مجاريها، ثمّ ألقت بذيولها على الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتَهَدَّدَ باستفحالها الأمنُ الاجتماعيّ، شدَّ الجميعُ رحالَ تفكيرهم إلى فكرةٍ واحدةٍ وحيدة. تنظيم انتخابات تشريعيّة مبكّرة تعيد تصحيح القوى والأحجام، وتسمح بإنتاج غالبيّة «متجانسة» وبالتّالي، حكومة «منسجمة».

 يحدث هذا، في العادة، كلّما خرج لبنان من انتخاباتٍ في موعدها الدّستوريّ وعَجِزت نخبُه عن التّوافق على مشتَركات، أو عن تأليف حكومات لتترك البلد نهباً للاضطراب والانتظار، فلا يكون من جوابٍ عن نازلة الإخفاق سوى الدّعوة إلى تحكيم صناديق الاقتراع ثانيةً. أمّا حين يقترب الموعد بعامٍ أو عامين فلا بأس - عند النّخب تلك - من تعطيل الحياة السياسيّة، وشلّ البرلمان والحكومة، وتعليق كلّ شيءٍ في السّياسة والإدارة والتّدبير والاقتصاد على انتخابات ستكون خشبة الخلاص للجميع!

  هي، إذن، أسطوانة سياسيّة مشروخة لا تعيد في دورانها الرّتيب سوى العبارة الرّتيبة المَمْلُولِ والمضجورِ منها: تنظيم الانتخابات؛ العبارة التي يتحدّى بها زيْدٌ عمراً موحياً إليه بالقوّة والثّقة بالغلبة، فيما هي، على التّحقيق، العبارة التي تخفي أخلاق اللاّمسؤوليّة، والتي لا وظيفة لاستدعائها، في كلّ وقتٍ وحين، سوى للاحتجاب خلفها هرباً من تحمُّل المسؤوليّة تجاه بلدٍ وشعب يدفعان غالياً من سياسات التّعطيل: السّياسة الوحيدة التي ينعقد عليها توافقٌ وطنيّ غيرُ معلَن بين القوى المتلاسنة!

  ليس من لعبةٍ بعد هذا أتْفَهُ ولا أَفْقَرُ إلى الرّشد السّياسيّ؛ لعبة لا عقل لها ولا منطق. ما معنى أن يقول شعبٌ كلمته في انتخابات سابقة فتردّ عليه نخبُه بفيتو منها على إرادته، فيما هي تدعوه - في الوقت عينِه - إلى أن يقول كلمته ثانيةً؟ كأنّه الخصمُ والحَكَمُ في الآن، أو كأنّ المطلوب منه أن يصحّح رأيه وخطأه الذي «اقترف» في اقتراعٍ سابق؛ وهكذا لا تكون إرادتُه حرّة وتصويتُه صحيحاً إلاّ إنْ هي رجّحَت كفّةَ مَن تدعوه إلى إعادة النّظر في اختياره. هل ثمّة من احتقار نخبةٍ للشّعب أكثر من هذا؟ شعبٌ في خدمة نخبته، يقدّم لها السُّخْرة السّياسيّة، ويمتثل لأمرها سمعاً وطاعة، وإنْ لم يستجب عاقبته بتعطيل الحياة العامّة، ورمت بأوضاع معيشِه إلى المجهول! ما من بلد في العالم يقوم نظامُه السّياسيّ على هذا النّوع من العبث بالمصير باسم صناديق الاقتراع (التي لا تُحْتَرم نتائجُها).

  مَن يستمع إلى ما يجري على ألسنة نُخب لبنان السّياسيّةِ عن الانتخابات والحاجة إليها لتصحيح التّمثيل، ولإخراج لبنان من انسداده السّياسيّ، قد يُخيَّل إليه أنّ الانتخابات رديفُ الثّورة الاجتماعيّة والسّياسيّة في البلاد، وليست مجرّد طقسٍ سياسيّ موسميّ مكرور يعيد، في كلّ دورةٍ منه، إنتاج البنى والعلاقات الاجتماعيّة عينها التي اعتاد إخراج محصّلتها من أحشائه! بل هو قد يخيَّل إليه أنّ البنية الاجتماعيّة- السّياسيّة اللّبنانيّة من السّلامة في التّبَنْيُن والاصطفاف الطّبقيّ، ومن التّدفّق الانسيابيّ لحقائق التّوازنات الاجتماعيّة الطّبقيّة، وتعبيراتها الأيديولوجيّة والسّياسيّة، حدّاً يمكنه معه أن يشهد على تغيُّرٍ فعليّ في الحقل السّياسيّ؛ وأنّ الصّراع الانتخابيّ فيه يمكن أن يُسفر عن تبدّلاتٍ هائلة في الأحجام والتّوازنات واستراتيجيّات السّلطة. بكلمة: قد يُخَيّل إليه أنّه نسخةٌ أخرى من فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا أو غيرها من البلاد المكتملة  طبقيّاً، وانقساماً أفقيّاً، واستقطاباً أيديولوجيّاً وسياسيّاً يكفي الاقتراع لتوليد صورةٍ مطابِقة له على صعيد التّمثيل في كلّ مناسبة تتولّد فيها وجوهٌ جديدة من توزيع القوّة التّمثيليّة في المجتمع.

وليس لبنانُ كذلك؛ هو، بالأحرى، بلدٌ تمنعه عاهتُه الطّائفيّة ونظامُه السّياسيّ القائمُ عليها من أن يُنتج مجالاً سياسيّاً حديثاً تجري فيه السّياسة، على مقتضى قواعدها الحديثة، بما هي منافسة بين قوى تمثّل مصالحَ اجتماعيّة طبقيّة، وخيارات سياسيّة موضوعيّة تتولّد من تلك المصالح حكماً. حياتُه السّياسيّة محكومة ببنيته الطّائفيّة، ومكبوحة بأحكام هذه البنية التي يتولّد منها تمثيلٌ مشوّهٌ وهجين للمجتمع، وأدوات سياسيّة (= أحزاب) تحوي مجموع الطّيف الاجتماعيّ - بمُمْلِقيه ومُتْرَفيه - في كيانٍ «تمثيليّ» واحد لا جامع بين أمشاجه سوى مصالح العصبيّة الأهليّة أيّاً كانت علاقاتُ التّفاوُت الاجتماعيّة داخلها.

وعلى ذلك، ليس لأيّ انتخابات في لبنان أن تحمل مفاجآتِ تغييرٍ في نِسَب التّمثيل إلى الحدّ الذي يعوِّل عليه معوِّل في إنتاج مشهدٍ تمثيليّ جديدٍ مختلف. البنية الطّائفيّة بنية راكدة لا متحرّك فيها سوى الدّيموغرافيا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"