ضحايا الحرب

00:57 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

لا حرب من دون ضحايا، أي حرب في أي مكان مهما كان نطاقها وشدتها. طبعاً يظل البشر هم ضحايا الحرب الأهم، والأكثر، لكن هناك ضحايا لا يُذكرون كثيراً، وأتصور أنها لا تقل خطراً، وتحديداً على حياة البشر ومستقبلهم. وأول ضحية في أي حرب، أياً كان المنتصر أو المهزوم فيها، ومهما كان حجم الضحايا البشرية الناجمة عنها، هي الحقيقة. ومنذ الأزل، هناك روايتان لكل صراع، وفي كل منهما من المغالاة و«التجمل» (حتى لا نقول الكذب) ما يجعل استخلاص الحقيقة أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً في بعض الأحيان. واسألوا المؤرخين.

 كشفت الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ نهاية الشهر الماضي، بوضوح شديد، أن التضحية بالحقيقة تزيد وتيرتها بشكل غير مسبوق في التاريخ. والمفارقة أن ذلك يحدث في وقت تطورت فيه وسائل الاتصال والإعلام، حتى كاد العالم كله يصبح مكشوفاً لكل البشر، وبشكل مباشر، وفي التو واللحظة. وكأنما شدة «الكشف» انقلبت إلى عكسها حتى أصبحت «تعمية» وتضليلاً. وهكذا يتحقق المثل القديم «إذا زاد الشيء عن حدّه، انقلب إلى ضدّه».

 فالأغلبية العظمى من المعلومات والأخبار التي يتم تداولها عن حرب أوكرانيا ليست غير دقيقة فقط، بل في بعض الأحيان تفوق الكذب الصريح والتهويل الفج، إما بغرض رفع الروح المعنوية، وإما حشد الغضب والكراهية أو استدرار التعاطف والعون. وما إن يستقر رماد نار الحرب، ستكون النتيجة الكارثية الأبقى والأطول تأثيراً هي أن اغتيال الحقيقة، (النسبية طبعاً)، ونسف الموضوعية سيترسخ كمنهج يكاد يكون متسيّداً. 

 من الصعب على من يعتمد التهويل والتضليل أن يكسب دعماً إنسانياً حقيقياً. إنما الأمر أشبه بما تسمى «قفشات» من الممثلين في عرض مسرحي يهلل لها الجمهور في القاعة، وتخفت بعد المسرحية.

 ولا يقتصر اغتيال الحقيقة، والتضحية بها في هذه الحرب، على طرف. لكن لأن روسيا معروفة بأنها دولة شمولية تكاد تكون مغلقة، فليس مستغرباً ألا تحصل من جانبها على معلومة دقيقة تماماً. إنما الكارثة الحقيقية هي في الغرب، الذي ما زال، بجرأة تصل إلى حد الوقاحة، يعظ العالم بحق الإنسان في المعرفة وحرية الرأي بلا حدود وبالديمقراطية والموضوعية.

 هناك مثال فج من صحيفة أمريكية تعد «مرموقة» ورصينة عالمياً، هي ال«نيويورك تايمز» التي نشرت تقول إن ادعاءات الأوكرانيين بشأن «شبح كييف»، أي الطيار الذي يسقط الطائرات الروسية بالعشرات تجافي الحقيقة تماماً، لكنها مفهومة في إطار رفع الروح المعنوية للشعب. 

 أما السيدة الأوكرانية التي أسقطت «درون» روسية باستخدام «برطمان مخلل» استهدفتها به من شرفة منزلها، فلا تقابلها سوى حكاية المزارع العراقي الذي أسقط طائرة أمريكية في حرب غزو العراق باستخدام بندقيته العادية. لكن على الأقل كانت بندقية، ثم إنه كانت هناك طائرات أمريكية، لكن الجيش الروسي لا يستخدم «درون» في أوكرانيا، إنما الجيش الأوكراني يستخدم «درون» اشتراها من تركيا.

 الأمثلة لا تعد ولا تحصى، ومنها أن كل الجسور التي ترونها مهدمة على الشاشات وفي مواقع الإنترنت فجّرها الأوكرانيون لوقف تقدم القوات الروسية الغازية – وهذا تصرف دفاعي طبيعي. لكن أن يقوم الإعلام الغربي في محاولته «شيطنة العدو الروسي» بتكرار كل ساعة أن روسيا «تدمر البنية التحتية الأوكرانية» فهذا ما أتصور أنه سينقلب على الغرب وسياسييه وإعلامه. ربما يكون مفهوماً أن الرئيس الأوكراني، وحكومته، في مأزق ويريدون تعبئة الشعب واستدرار الدعم. لكن، أيضاً الكذب الفج بهذا الشكل يهوي بمصداقيتهم بشدة وبسرعة. فالرئيس الذي أراد أن يستنجد بيهود العالم للدفاع عن نظامه فاتهم الروس بقصف موقع في كييف دمر خلاله نصباً تذكارياً لمحرقة يهودية على يد النازي. فذهب مراسل صحيفة إسرائيلية في كييف إلى الموقع ليجده كما هو لم يقصف، أو يدمر، وأرسل تقريراً مصوراً لصحيفته نشرته على الفور. 

 الأمر الذي يثير السخرية حقاً، أن الدول الغربية التي تحاضرنا يومياً بأنها واحة الديمقراطية والحرية حجبت كل منافذ الإعلام الروسية، بل وأي منفذ إعلامي يحاول أن يكون موضوعياً – فقط لتبقي على منافذ الدعاية المضللة الفجة. في الوقت الذي لم تحجب فيه روسيا منافذ غربية مثل «بي بي سي» و«صوت أمريكا». ثم حين تقيد روسيا بث التضليل تثور ثائرة لندن وواشنطن وتنتقد «الديكتاتورية» في روسيا.

كل ما ذكرنا هو عن الإعلام التقليدي، أما الإعلام الرقمي ومواقع التواصل فلها حديث آخر أهم وأخطر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"