العامل الأمريكي ومسار مجلس التعاون

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. عبدالله أحمد آل علي *

سيظل إقليم الخليج العربي حالة مثالية لعدم السكون بل والاضطراب السياسي والأمني؛ وذلك بسبب خصائصه الجيوسياسية ومزاياه الاقتصادية المحفزة للتدخل فيه من جانب القوى الإقليمية والدولية. ومن هنا، يظل ملف الاستقرار السياسي الأكثر أهميةً وتعقيداً في النظام الإقليمي الخليجي؛ فما تزال الصراعات والأزمات، ولاسيما المتوارثة منها، هي القاعدة السائدة في منطقة الخليج، في حين أنّ الأمن والاستقرار هما الاستثناء.

وقد كان لطموحات الدول الكبرى في الوصول للمنطقة ومصالحها المتشابكة فيها أثرها المؤكد على حالة عدم الاستقرار الإقليمي. وتُعد الولايات المتحدة من أهم هذه الدول، كونها شريكاً استراتيجياً دائماً لدول الخليج العربي. وقد كان للولايات المتحدة الدور الموجّه والمهيمن لصيرورة الأحداث في المنطقة، منذ الانسحاب البريطاني في أواخر الستينات من القرن المنصرم، والتغيرات التي عصفت بالمنطقة بعدئذٍ؛ وعلى رأسها الثورة الخمينية في إيران عام 1979، والحرب العراقية-الإيرانية عام 1980.

وقد خلقت تلك التغيرات العاصفة حالة من التوجس والريبة الأمنية المتزايدة لدى دول الخليج العربية، وأدركت أنّها في أمسّ الحاجة لهيكلٍ تنظيمي يخلق درجة من التماسك الاستراتيجي بينها، ويدرأ عنها الانكشاف الأمني، ويرسي شكلاً من توازن القوى في المنطقة، ومن ثم يحافظ على أمنها واستقرارها. وتمخض هذا عن تأسيس منظومة تعاونية في 25 مايو1981/ أيار، تمثلت في مجلس التعاون الخليجي، والتي تطلعت فيه شعوب المنطقة لحلم الوحدة الخليجية الذي يراودها منذ الاستقلال. وهكذا جاءت نشأة مجلس التعاون لدول الخليج العربية لاعتبارات أمنية في المقام الأول.

إن الراصد السياسي لتاريخ مسار الأحداث في هذا الإقليم وطبيعة تطور المنظومة الخليجية يتبين له دور الولايات المتحدة في تطور هذه المنظومة بالنظر إلى ديناميكية علاقتها مع مجلس التعاون ومتانة علاقاتها البينية مع أعضائه كلٌ على حدة. والحق إنّ البناء الخليجي ودرجة تماسكه في حدوده العليا وحدوده الدنيا تأثر بدرجة كبيرة بالعامل الأمريكي. ومن الصحيح أنّه توجد عوامل أخرى أثرت في درجة قوة وتماسك المنظومة الخليجية، أهمها تباين السياسات الوطنية للدول الأعضاء تجاه بعض القضايا سواء داخل الإقليم أو خارجه، إلّا أنّ المتغير الأمريكي ثبت أنه كان الأكثر تأثيراً وفاعلية.

فقد مرت على منطقة الخليج أزمات وصراعات بين دولها، استطاع أعضاء المجلس أن يوجدوا مواءمات وتوافقات سياسية، ما انعكس إيجاباً على مستوى التماسك لدول المجلس، ولاسيما إذا كان التحدي أو التهديد أشمل وأخطر. فاحتلال دولة الكويت عام 1990 برهن على نسبة التماسك بحدها الأقصى لمواجهة هذا التهديد بشكل واضح وجلي. وكانت الولايات المتحدة تدعم هذا الأمر؛ طبقاً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. كما أنّ الحرب على العراق عام 2003، بقيادة الولايات المتحدة، كانت حدثاً آخر مؤشراً على مستوى عالٍ من التماسك لمجلس التعاون.

ولكن، جاءت أحداث ما سمّي بالربيع العربي عام 2011 لتلقي بظلالها على الإقليم الخليجي وتضع مجلس التعاون الخليجي أمام تحدي الاستدارة لمصالحه، وعدم الإنصات الاستراتيجي للحليف الأمريكي الذي كان يرى هذه الأحداث تتوافق مع مصلحته. استطالت جذور أزمة الربيع العربي (أو بالأحرى الخريف العربي)، التي بدأت شرارتها في تونس لتمتد إلى مصر وسوريا واليمن وليبيا، ثم العراق والسودان، مخلفةً اضطراباتٍ سياسية وحروباً أهلية منطقها الطائفية والمناطقية وعمليات إرهابية.

كانت مواقف دول مجلس التعاون من أحداث «الربيع العربي» متفاوتة، أثرت في تماسك المجلس بشدة ، خاصة أزمة قطر التي تصدع فيها تماسك مجلس التعاون مما سمح لأطراف إقليمية بالتدخل؛ الأمر الذي فاقم الخلاف بين قطر وكل من السعودية والإمارات والبحرين في ذلك الوقت.

وهكذا، تعاملت الولايات المتحدة مع المنظومة الخليجية بشكل غير متناغم؛ فهي وفرت الظروف الاستراتيجية الممكنة لحالة التماسك التي اختبرتها هذه المنظومة في بعض الأحيان، وبما يخدم مصالحها القومية. ولكنها؛ أي الولايات المتحدة، أعطت، في معظم الأحيان، أولوية قصوى لعلاقاتها البينية مع كل دولة من دول مجلس التعاون على حدة، والأدهى أنّ واشنطن تجاهلت وجهات نظر ومصالح دول مجلس التعاون في المفاوضات التي أفضت إلى توقيع الاتفاق النووي الإيراني في يوليو 2015! 

نخلص مما سبق إلى أنّ العامل الأمريكي كان عاملاً سلبياً في تطور مسار مجلس التعاون الخليجي؛ فالولايات المتحدة أبقت على المنظومة الخليجية في حدها الأدنى، أو في حدود التماسك المرغوب بما يخدم المصالح الأمريكية. وتفسير ذلك كان يرجع إلى الظروف الدولية التي اختبرتها المنطقة منذ نشأة المنظومة الخليجية، والالتزام الأمريكي بأمن المنطقة. ولكن في ضوء التغيرات العالمية الراهنة، ولاسيما تنامي تقلص الفجوة بين القدرات الأمريكية وقدرات الدول الكبرى الأخرى وخاصة الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، واتجاه النظام الدولي إلى التعددية القطبية، والانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتخفيض مستوى الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط، وحرب أوكرانيا (منذ فبراير 2022)؛ يجدر بدول الخليج استثمار هذه التغيرات العالمية لتقوية مجلس التعاون، ولاسيما هياكله الأمنية والاقتصادية؛ لتحقيق مطالب شعوبها في الوحدة السياسية والاقتصادية والأمن الجماعي. كما أنّ نفس هذه التغيرات من شأنها تحفيز القوى الإقليمية الرئيسية الأخرى، وخصوصاً إيران، على الانخراط مع دول المجلس في جهود إرساء الاستقرار وتحقيق الرخاء الاقتصادي في المنطقة.

* باحث في الشؤون الأمنية [email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث متخصص في القضايا الأمنية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"