بين قوة الحق وحق القوة

00:46 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

جمعتنا المدينة الجامعيّة في باريس بأحد السفراء المتقاعدين في لندن فقال: «انظر وتابع…نحن على أبواب مخاوف تدمير العالم نووياً ولم نتقدم كعرب في الأمم والعالم خطوة واحدة. قضيت عمري هناك أوراق ومؤتمرات وأسفار وقاعات مبرّدة، فنادق، سهرات، ولائم، لجان صياغة وتوصيات وبيانات ختامية وتقارير ووشاة ومعارف دولية ورواتب عالية، عمر قضيناه كمن يعلك الماء. لا يثق العالم بنا».

لماذا لا يثقون بنا؟ قلت  لم أسمع منهم جواباً مقنعاً. كرّرها بالإنجليزية. قضايا تحتاج إلى التفكير في الذي يحول دون تنفيذ القرارات الدولية المتعلّقة بالعرب؟ ولماذا تُفرّغ الأمم المتحدة من رسالتها الأولى وميثاقها في قضايانا العربيّة؟ هل الأداء العام لبلادنا هو السبب أم أنّ استراتيجياتها الخاصة ببلادنا مطعون بها منذ فلسطين، ولا ما يقرّبها من العدالة؟

 ذكّرته بقول لستيفان دو ميتسورا المبعوث الدولي السابق مفاده بأن أيّ عربي سيجد صعوبة في التحدث عن قضايا العرب والعالم وحتى التهديدات النووية اليوم، بلا انحياز، وإلاّ فإنّه سيوصم بالخيانة ويقرّعه زملاؤه العرب في الأمم المتحدة بأصوات عالية وصراخ، ولهذا هناك مشكلة عريقة في إيجاد دبلوماسيين يتمتعون بالثقافة الموضوعية. وجهة نظره هذه طبعاً غير موضوعية على الإطلاق.

 أطرح أسئلة قديمة متجددة مع أنّ مناخات العولمة طمست أو هزّلت من لا يزال يدوّن لائحة الفروقات بين الشرق والغرب، لكن الجواب الواقف أمامي هو: سواء وثق العرب بأنفسهم أو بغيرهم فتدميرهم سيمشي أمامهم حتّى ولو أنّ السلام وبساتين الزيتون تعثرت أمامهم من العراق فتونس فسوريا ولبنان. 

 يغيظني، بالمناسبة، أن أرى زراعة أشجار الزيتون وبرك المياه والنوافير أمام مباني الأمم المتحدة في لبنان وعواصم العرب والعالم كأنّ الزيتونة باتت موضة العصر وإليكم حكايتها في عالم ينشد السلام من مواقد روسيا وأوكرانيا ومواقد العالم النووية التي تهدد بمحو الحياة البشرية:

 تعود فكرة الزيتون إلى جدّنا اللبناني فارس الخوري مندوب سوريا في مؤتمر سان فرانسيسكو (حزيران 1945) الذي اقترح تطويق رسم الكرة الأرضيّة في علم الأمم المتّحدة بغصنين من الزيتون رمزاً معبّراً للسلام بين الشعوب والدول بعد الحربين العالميتين. استلهم الرجل فكرته راوياً من طفولته المدموغة بالفلاحة والزيتون في قرية الكفير مسقط رأسنا في لحف جبل حرمون. 

  لقد أكلتنا الدهشة من كثرة الخرائط المستوردة في مشاريع الخرائب المتنقّلة من بلدٍ عربي إلى آخر، كان أوّلها العراق! تلك الصور والاعتداءات تقصف البشرية والاقتصاد والحضارة. وهنا في أزمنة النزوح العالمي أطرح سؤالاً يتملك اللبنانيين اليوم في جدل بيزنطي عقيم حول تسمية السوريين الفارين من سوريا إلى لبنان بين نازحين تسهل عودتهم إلى بلدهم أو لاجئين، وللتسميات ومصطلحاتها وأوراقها معانيها وأعباؤها في الأمم المتّحدة باعتبار اللاجئ صاحب حقوق تكفلها الدولة المفتوحة أبوابها ليفر إليها، وكأنّ المصطلح يغيّر في الواقع شيئاً. لم يعد هناك من معنى دسمٍ للقول إنّ الأمم المتحدة ستقف إلى جانبكم عرباً وشعوباً وتعمل لأجلكم لاستعادة سياداتكم وبناء مؤسساتكم والحفاظ على عواصمكم وبلادكم والعالم. إنّ الوحشية في القتل والتدمير وسرقة الأموال المتدفّقة تحت عنوان النزوح وغيره والعديد من المؤسسات الدولية والجمعيات تراكم الثروات حتى لبعض من يدّعون الثورات وينظرون للمتغيرات.

 عندما سئل الرئيس فارس الخوري عن الذكرى التي لا ينساها في حياته، قال: 

«من الذكريات التي لا أنساها... في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي لم نُدع إليه في بادئ الأمر، وبذلنا جهوداً جبّارة لذلك ونجحنا... قمت بالجهد المستميت لتحقيق غرضين، الأول هو تدوين عضويتنا الرسمية في المؤتمر، والثاني إدخال نص في الميثاق بأنّ الأعضاء المؤسسين للأمم المتحدة هي دول مستقلّة استقلالاً تاماً ناجزاً ولا يجوز إخضاعها لأي نظام من أنظمة الوصاية والقهر والاستعباد. وعندما جلست بدوري لأوقّع على ميثاق الأمم المتّحدة أسوة برؤساء وفود الدول الخمسين الذين اشتركوا بوضع هذا الميثاق وتوقيعه، كانت أجمل لحظة في حياتي السياسية لأنّه بنتيجة هذا التوقيع بدأنا التخلّص من الانتداب.. ومن غرائب الاتفاق أنّ قرار الأمم المتحدة بوضع نظام خاص بمجلس الأمن والمحافظة على السلام العالمي(25 تشرين الأول 1945) كان هو اليوم نفسه والساعة نفسها التي وضعت فيها وفود الدول العربية في مؤتمر «سان استيفانو» في القاهرة مبادئ ميثاق جامعة الدول العربية.. قلت يومها عند التوقيع: «أرجو أن تكون قوّة الحق في هذه المنظمة الدولية أقوى من حق القوة»، واستشهدت بعبارة لأبي بكر الصدّيق حينما ولي الخلافة أنه قال:«سيكون قويّكم ضعيفاً عندي حتى آخذ الحق منه، ويكون ضعيفكم قويّاً حتى آخذ الحق له».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"