تداعيـــات الأزمة الأوكرانية وخطـــط التعافـــي

21:25 مساء
قراءة 4 دقائق

محمد العريان *

أدت الأزمة الروسية - الأوكرانية، والعقوبات الواسعة التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على موسكو، إلى حدوث اضطرابات اقتصادية من أربعة مستويات، مباشرة، وانعكاسية، وغير متوقعة، ومنهجية. ولاحتواء عواقبها على المدى الطويل، وتخفيف حجم المخاطر يجب أن نبدأ العمل على خطط التعافي الآن.

من المرجح أن ينكمش النشاط الاقتصادي في أوكرانيا بما يزيد على الثلث هذا العام، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية المتصاعدة كثيراً. وبالفعل، سقط نتيجة الحرب هذه أكثر من 750 ضحية في صفوف المدنيين، واضطر 1.5 مليون أوكراني إلى الفرار إلى الدول المجاورة، ونزح الملايين داخلياً.

وبينما لم تتكبد روسيا معاناة إنسانية واسعة النطاق أو دماراً مادياً كالحاصل في أوكرانيا، لكن اقتصادها يتجه نحو الانكماش بنحو الثلث بسبب صرامة العقوبات غير المسبوقة التي تخضع لها الآن، وعلى وجه الخصوص، تجميد أصول البنك المركزي واستبعاد بعض البنوك الروسية من نظام «سويفت» العالمي، والذي سيكبح سير العجلة الاقتصادية هناك ويصيبها في مقتل. ناهيك عن العقوبات الذاتية التي فرضها أشخاص وشركات ك «أبل» و«بريتيش بيتروليوم» وغيرها، ما سيضاعف الضرر أكثر.

من المتوقع أن تواجه روسيا قيوداً شديدة على النقد الأجنبي، ونقصاً هائلاً في السلع، وانهياراً أكبر في قيمة الروبل، وتوقعات بأن تزداد الأمور سوءاً قبل أن تتحسن. وهي صورة تشبه إلى حد كبير ما رأيته عند زيارتي موسكو في أغسطس/آب عام 1998. وحتى لو انتهت الحرب غداً، فالانتعاش الاقتصادي سيستغرق أعواماً ليرتد ويتعافى، وكلما طالت مدة الحرب، زاد الضرر، وزادت احتمالية التعرض لردود فعل عكسية وشرسة، وتعاظمت العواقب الوخيمة.

في أوكرانيا، تضررت البنية التحتية المادية والبشرية بشدة. صحيح أن الدولة قد تحصل على دعم خارجي هائل لإعادة الإعمار، وبالتالي معالجة نقاط الضعف السابقة وبناء هياكل وعلاقات اقتصادية جديدة في الداخل والخارج، لكن العملية ستستغرق وقتاً، مع وجود الكثير من المطبات على طول الطريق.

بدورها، ستواجه روسيا صعوبات بالغة في إعادة علاقاتها الاقتصادية والمالية والمؤسساتية مع العالم الخارجي، ولا سيما الغرب. مما يعيق الانتعاش الاقتصادي في نهاية المطاف، والذي سيعتمد على تنظيم عمليات إعادة الهيكلة الداخلية المعقدة والمكلفة ذات الأبعاد السياسية والاجتماعية. 

ومع ذلك، فالعواقب الاقتصادية للحرب لا تقتصر على الدول التي تخوضها. إذ بدأ الغرب يشعر فعلاً بانعكاسات «الركود التضخمي»، وتفاقم الضغوط التضخمية القائمة بفعل ارتفاع أسعار السلع الأساسية، بما في ذلك الطاقة والقمح، علاوة على بدء جولة جديدة من اضطرابات سلاسل التوريد، وزيادة تكاليف النقل مرة أخرى. ومن المرجح أن تقود الطرق التجارية المُعطلة إلى مزيد من الضغوط السلبية والهبوطية على النمو.

من المؤكد أن حجم الضرر الذي سببته التطورات الأخيرة سيتباين بشكل كبير عبر البلدان وداخلها. وفي ظل غياب استجابة سياسية في الوقت المناسب، على الاقتصادات المتقدمة أن تتوقع نمواً أقل، وتفاقماً أكبر في عدم المساواة، وتباينات أوسع في الأداء بين البلدان. بشكل عام، من المرجح أن يتفوق أداء الولايات المتحدة على أوروبا، التي من المرجح أن تنزلق إلى الركود. يعود ذلك إلى مرونة الاقتصاد الأمريكي وأدائه السلس، على الرغم من فشل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الاستجابة للتضخم في الوقت المناسب العام الماضي، وهو خطأ تاريخي في السياسة من شأنه تقويض مرونتها.

أما على جانبي الأطلسي، فمن المتوقع حدوث تقلبات متزايدة في السوق، ومقلقة في بعض الأحيان. وستكون الخسائر المالية أكبر في أوروبا، مع تضرر قطاعات معينة أكثر من غيرها، لا سيما البنوك وشركات الطاقة. كما سيزداد الاختلاف الاقتصادي والمالي في أماكن أخرى من العالم. وعليه قد يكسب بعض منتجي السلع الأساسية أموالاً طائلة من ارتفاع أسعار الصادرات لتعويض الخسائر الناجمة عن انخفاض النمو العالمي. لكن في المقابل، هناك عدد أكبر بكثير من البلدان، لا سيما تلك الواقعة بالقرب من مناطق النزاع الحاصل أو ذات الاقتصادات النامية والهشة، ستواجه ضغوطاً متنوعة، بما في ذلك حجم التبادلات التجارية، وتدفقات الهجرة، وتعزيز قوة الدولار، وانخفاض الطلب العالمي، وعدم استقرار الأسواق المالية.

وسيكافح مستوردو السلع الأساسية للتعامل مع الزيادات المفاجئة في أسعار المواد المستوردة، حيث يصعب تحميل الزيادات على فاتورة المستهلكين أو دعمها حكومياً. كما يمكن أن يشمل التأثير المحتمل المزيد من عمليات إعادة هيكلة الديون. وما لم يستجب صانعو السياسات للمتغيرات الحاصلة بفاعلية وفي الوقت المناسب، فإن الاقتصادات الأضعف ستواجه احتمالية اندلاع أعمال شغب بسبب الغذاء.

وبخصوص التعددية، فقد أعاد الغرب، على المدى القصير، تأكيد هيمنته على النظام الدولي الذي بناه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لكن على المدى الطويل، عليه توقع تحديات خطيرة من الجهود المكثفة التي تقودها الصين في كل مرة لبناء نظام اقتصادي ومالي بديل.

يُقال إنه في أوقات الأزمات الصعبة تكمن الفرص العظيمة، وبينما يجتمع العالم الغربي لبحث إمكانية وقف الآلة الحربية بين روسيا وأوكرانيا، وهو أمر ضروري جداً، فإنه من المهم أيضاً أن تتخذ تلك الدول الإجراءات المناسبة في الوقت المناسب للتخفيف من المخاطر الاقتصادية طويلة المدى التي يثيرها الصراع، ولتعزيز المرونة والتعاون في المستقبل.

* خبير اقتصادي ورئیس كلیة كوینز بجامعة كامبریدج

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

خبير اقتصادي وكبير المستشارين الاقتصاديين لشركة أليانز Allianz

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"