قرطبة حياة..!

01:25 صباحا
قراءة دقيقتين

الصبح في الشتاء يتنفس، يعيد استعادة الوجوه الغائبة، يروض الروح العائمة في ضوضاء الحياة، وفي السفر يتجلى التاريخ الذي يعيدنا لأزمنة القراءات الأولى، لأناس قرأنا عنهم، ارتحلنا لأماكنهم، تجولنا في تفاصيل أيامهم، فرحنا لقصصهم، وحزنا لآلامهم. هنا من حيث أجلس، أكتب حيث تعيد «قرطبة» في نفسي قراءات وتاريخ المسلمين.
إسبانيا، الأندلس، غرناطة، قرطبة، الحمراء، القصور والمكتبات، حي الوراقين، ساحات الخطب وكتابات العلماء، خطوات المارة في الحارات واستسلام الضيوف لروائح البيوت وأمهات الصباح. هنا كنت أتساءل وأنا أخطو في الممرات وبين أزقة البيوت الضيقة، أغمض عيني أتخيل من عاش هنا، قرأتهم في روايات عالمية، في ثلاثيات وكتب التاريخ، في رحلة عبدالرحمن الفاتح، وتفاصيل المعمار الذي يحتضنك من بعيد ويوشوش لك «إني أعرفكم».
في الأسفار، نحن نتعلم عن أنفسنا قبل تلك المدن التي نزورها، نتعلم ماذا تعني الحياة لنا؟، وأين نحن في تفاصيل الذين عاشوا هناك ورحلوا تاركين لنا أزمنتهم بين دفات الكتب وحوارات المريدين وأساتذة يلقنون الدين والثقافة والتاريخ؟.. كل ذلك الصمت في الدرس واحترام وتقدير حضور العلم في قلب عمامة المستقبل. إنها الحيوات الممزقة في قلوب العشاق وقلوب الحيارى، هي الحب والوجع والسؤال واحتضان المطر والبرد.
في قرطبة وفي جوار مسجد وكاتدرائية قرطبة التي شهدت تحولات كبيرة، كانت في التاريخ كنيسة وفي عهد عبدالرحمن الأول حولها للجامع الكبير، أعاد إحياءها بعمارة إسلامية تسلب الألباب، كانت تؤذن الصلاة، في عاصمة الأندلس، ومن ثم أصبحت كنيسة تستقبل المسيحية وتتجلى بعمارة قوطية تتحدى المعمارين أنفسهم، واليوم هي مقر للسياحة  للعالم تخبرهم عن كل العصور وكل التغيرات التي عاشتها حجارة بهية في لونها صامدة أمام كل ما يمر بها من عواصف، بهرت بالمعمار وتساءلت عن ذلك الإنسان الذي استطاع أن يبدع في تفاصيل لا تتكرر اليوم، تفاصيل مليئة بعبق الجمال والأبهة.
إنها قرطبة، وهي العلم والإنسان ورحيل مؤلم لما في قلوبنا يوماً، إنها ابنة الأندلس، بوابة الحنين وصورة الشوق الذي يتأرجح دائماً فينا، إنها الطرقات وسماع صوت الوقت الذي ربما يوماً يعود. في صباحها بهاء وفي سمائها سلام، في صورة نهرها عظمة وقوة، صمود يقلقك من وهج انتظار وقوف قلاعها على الأطراف المترامية، هنا عاش أجدادنا المسلمون الذين غيروا وجه تاريخ قارة كانت في الظلمات تغوص، فانتشلها العلم ونور القلم.
إلى المسافرين هناك، حلقوا بقلوبكم، فحتى صخور الممرات والحوارات مشتاقة لكم ولحبكم، اقرؤوا المكان وعرفوه على أنفسكم، كونوا في حضوركم أصحاب المكان بتفاصيلكم، أخلاقكم، هويتكم التي تعيد قصة التاريخ.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مؤلفة إماراتية وكاتبة عمود أسبوعي في جريدة الخليج، وهي أول إماراتية وعربية تمتهن هندسة البيئة في الطيران المدني منذ عام 2006، ومؤسس التخصص في الدولة، ورئيس مفاوضي ملف تغير المناخ لقطاع الطيران منذ عام 2011

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"