«الحضارة البيضاء» وسقوط ورقة التوت

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد نورالدين

لا تزال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في بداياتها. قد تنتهي عسكرياً غداً أو بعد شهر وقد تتطور إلى حرب عالمية. ومن تمحص في أسباب انفجار حربين عالميتين مدمرتين لا يستبعد كل المفاجآت. ففي البداية كان معظم إن لم يكن جميع المحللين و«الخبراء» يستبعدون أن يلجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى شن الحرب على أوكرانيا فكيف بنشوء حرب عالمية. لكن بعد اندلاع العملية العسكرية لم يعد هناك من يستبعد أي مفاجأة خصوصاً بعدما أعلن بوتين أن الحرب العالمية الثالثة إذا وقعت ستكون حرباً نووية.

 لكن «دروس» الحرب في أوكرانيا ظهرت منذ اللحظات الأولى لاندلاعها .وهي دروس أخلاقية قبل أي شيء آخر. وقد كُتب عن ذلك الكثير والآلة الإعلامية الغربية كانت تركز أكثر على تظهير صورة الروسي ك «عدو» وخطر على البشرية. لكن الوقائع تستدعي نظرة باردة إلى هؤلاء الذين نظروا بعين واحدة إلى الصورة وحاولوا عن تقصد إخفاء الوجه الآخر منها.

 غالباً ما صُوّر العربي، كمثال، في الصحافة الأجنبية على أنه «ذاك» الذي يركب الجمل. وفيما ينطلق الغرب إلى الحضارة على ظهر صاروخ يذهب إليها العربي أو البدوي على ظهر جمل بالكاد يقطع واحداً في المئة من المسافة التي قطعها الغربي.!

 في الإحصاءات: إن 81 في المئة من الحروب بعد الحرب العالمية الثانية قد شنّت من جانب الولايات المتحدة فيما تتوزع النسبة الباقية على أكثر من دولة.

 وعلى الرغم من الجانب المتوحش الذي ظهر فيه الأمريكي والفرنسي وقبله الانجليزي في فيتنام والجزائر وعلى الرغم من أنه كان الرائد في تجارة الرقيق ولا سيما في إفريقيا السوداء، وتحويل البشر إلى مجرد حيوانات تباع وتشترى وتستخدم في مهن «قذرة»، فقد ظهر الانحياز الغربي خلال الحرب الأوكرانية بصورة فاضحة في التركيز على «علوية» الرجل الأبيض على باقي الأجناس البشرية. و«الأبيض» هنا لا تعني لون البشرة تحديداً؛ بل ذلك الرجل الذي استوطن في الغرب الأوروبي ومن ثم توسع واستوطن شمال القارة الأمريكية وانتقل بعدها أو معها إلى استراليا.

في هذا التعريف تبقى كل شعوب العالم خارج التصنيف الحضاري؛ بل ربما تشكل «خطراً» على الحضارة البشرية.

 التوصيفات التي حُصرت بالرجل الأبيض لم تكن مجرد «الوعي الباطني» لأناس تشردوا من منازلهم بسبب الحرب؛ بل لمثقفين وإعلاميين بات دورهم أكبر بكثير مما يجب وفي كبريات القنوات العالمية مثل cnn وbbc و nbc و bfmtv.

 الرجل الأبيض هو الأشقر وهو العيون الزرق وهو العضو في الاتحاد الأوروبي. الرجل الأبيض هو نوادي أوروبا الغربية لكرة القدم. أما اللاعبون من ذوي البشرة السوداء أو اليابانية أو الكورية أو التركية أو العربية فليسوا سوى بيادق تخدم «اللاعب الأبيض» في «النوادي البيضاء». «فيفا» هي مجرد تجمع لنصرة المنتخبات والأندية البيضاء.لا يمكن لأحد أن يهضم قراراتها المستبعدة لروسيا من بطولاتها فيما لم تفعل شيئاً أمام الغزوات الأمريكية في العراق وأفغانستان وأمام اعتداءات إسرائيل على الشعب الفلسطيني.

 حضارة الرجل الأبيض تعني خروج سويسرا عن «حيادها» التاريخي وتعني إرسال أسلحة إلى أوكرانيا من دول «مسالمة» مثل السويد وفنلندا. حضارة الرجل الأبيض تعني العولمة من أجل رفاهية امرأة شقراء بعطور كريستيان ديور وترف ركوب سيارة مرسيدس في برلين والرولزرويس في نيويورك. حضارة الرجل الأبيض وصلت فضائحها العنصرية إلى حد منع القطط الروسية من المشاركة في مسابقات ملكات جمال القطط في الغرب. إنها حضارة الإنكار التي كانت معروفة ولكنها انفضحت في أعلى تجلياتها مع الأزمة الأوكرانية. الحضارة البيضاء هي التي تمنع دوستويفسكي وتشايكوفسكي من برامجها ودروسها في الجامعات والمسارح الغربية.

 الحضارة البيضاء هي التي تسمح لأوكرانيا أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي وتمنع على تركيا هذا الأمر. السلم العالمي هو «سلم البيض» حتى يستسلم لحضارة اللون الواحد كل من هو«غير أبيض» ولو كان أشقر الشعر وأزرق العينين.

 قد تنتهي الحرب اليوم أو غداً، وقد لا تنتهي. لكن دروس الأزمة الأوكرانية عرّت حضارة «الأبيض» كما ليس من قبل ولن يستطيع الغرب بعد الآن أن يجد حتى ورقة توت ليستتر بها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"