الحرب في الإعلام أولاً

00:31 صباحا
قراءة 3 دقائق

سليمان جودة

في واحدة من القصص القصيرة لنجيب محفوظ ، تدور الأحداث في حي العباسية بالقاهرة، والبطل فيها مجرم يرتكب جرائم القتل، جريمة وراء جريمة، ثم يختفي من دون أن يترك وراءه أي أثر. 

 وكانت الشرطة تبحث في كل مرة عن القاتل من دون الوصول إلى أي نتيجة، وكان الجاني يزداد تحدياً لرجال الشرطة مع كل جريمة جديدة، وقد وصل في التحدي إلى حد أنه ارتكب إحدى جرائمه في الشارع الملاصق لقسم الشرطة، ثم بدا له في مرة أخيرة أن يختار ضابط مباحث القسم نفسه، ليكون ضحيته، وكانت طريقته في القتل واحدة لا تختلف ولا تتبدل، من جريمة إلى جريمة، الأمر الذي أثار الحيرة البالغة في نفوس الضباط، والمتابعين من المواطنين، معاً. 

   ولما بلغت الحيرة بالشرطة مبلغها، عقد مدير الأمن في العاصمة اجتماعاً مع الضباط المسؤولين عن أمن الحي، وصارحهم بأنه لا حل سوى التوقف عن النشر في الصحافة عن أي جريمة جديدة، وأن توقف النشر سوف يوقف الضغط عليهم، وسوف يهدأ الرأي العام الذي كان غاضباً لأقصى حد. 

  وهكذا.. كان تقدير مدير الأمن أن اختفاء أخبار القاتل بجرائمه من الصحف، يعني لدى الناس أن القاتل توقف عن ممارسة هوايته في اصطياد ضحاياه. 

  شيء من هذا تشعر به وأنت تتابع آخر أخبار فيروس كورونا بمتحوّراته المختلفة، ثم وأنت تتابع، في المقابل، تطورات الحرب في أوكرانيا. 

   لا شك في أن تطورات هذه الحرب قد استولت على المانشيتات في الشاشات، واستولت أيضاً على المانشيتات في الصفحات الأولى من الجرائد، وأزاحت كل ما يتصل ب«كورونا» إلى مساحات ضيقة في الصفحات الداخلية، إلى حد أن القارئ لا يكاد يراها. 

  ولا أدل على ذلك من أن الصين، على سبيل المثال، أغلقت 13 مدينة يسكنها 30 مليون مواطن، يوم الثلاثاء 16 مارس/ آذار، وقد وجدت السلطات الصينية نفسها مضطرة إلى ذلك لأن نسبة الإصابات كانت وصلت في المدن الثلاث عشرة إلى درجة لا حل معها سوى الإغلاق. 

  حدث هذا وجرى نشره بالأرقام، ولكن النشر كان في زوايا صغيرة من الصحف، وكان يظهر في لقطات خاطفة على الشاشات، ولم يكن لدى القارئ المأخوذ بآخر ما يجري على الجبهة الروسية - الأوكرانية من الانتباه ولا من الاهتمام، ما يجعله يلتفت إلى أن المتحوّر «أوميكرون» لا يزال يعربد على الجبهة الصينية، وأن أجواء الحرب في أوكرانيا فقط هي التي أخفته عن العيون. 

  وكان المعنى في قصة أديب نوبل، هو نفسه المعنى في أخبار المتحور التي انحسرت وانحسر عنها الاهتمام، ليس لأن المتحور نفسه لم يعد موجوداً، ولا لأنه تراجع واختفى، ولكن لأن مساحة التواجد الإعلامي لأوميكرون لم تعد كما كانت وقت شيوعه في العالم. 

  والدرس في الموضوع كله، أن الحرب هي في الإعلام أولاً، قبل أن تكون في ميدان قتالها الطبيعي، سواء كانت حرباً على أرض أوكرانية ونفوذ سياسي روسي، كما هو الوضع في حالة الحرب الروسية الأوكرانية، أو كانت حرباً على وباء من نوع «كورونا» بكل متحوراته التي ظهرت، والتي لم تظهر بعد. 

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"