كلنا خاسرون

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

لكل حرب خسائرها، التي تتفاوت حسب حجم أطرافها، ولأن الحرب المشتعلة الآن على أرض أوكرانيا هي حرب بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة، أي بين القوى العظمى التي سيّرت العالم عقوداً، واقتسمت قراره والنفوذ فيه، كما اقتسمت تسليحه، بعد أن قسّمته سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً، فإنها من الحروب التي «لا تبقي ولا تذر»، وتمتد الخسائر الناجمة عنها على امتداد خريطة العالم. 

صحيح أن أوكرانيا أكبر الخاسرين وتكاد أن تصبح دولة أشباح بعد أن تدمرت مدنها وتشرد شعبها إلى دول مختلفة، إضافة إلى خسائرها العسكرية. كذلك فإن روسيا لحقت بها خسائر في جنودها وعتادها، وتتعرض حالياً لأقسى عزلة اجتماعية وحصار سياسي واقتصادي، ويكفي تجميد الغرب ل300 مليار دولار لها ولأبنائها، وسيكون لما تتعرض له من حصار عواقب أكثر قسوة على حياة الناس على امتداد السنوات المقبلة. 

 الغرب الذي أسهم في إشعال هذه الحرب متوهماً أن أوكرانيا ستخوضها عنه بالوكالة، لحقت به شراراتها وبدأ يكتوي بنارها، وتكفي حالة الهلع التي أصابت البشرية نتيجة وضع قوات الردع النووي الروسية في حالة تأهب، وبالتبعية، فإن الغرب هو الآخر قد استعد نووياً وإن لم يعلن ذلك. وعلى الرغم من أن الغرب هو الذي فرض العقوبات بكل أشكالها وألوانها، فإن العواقب لم تنل من الاقتصاد الروسي وحده؛ بل انقلب السحر على الساحر وارتدت إلى دوله واهتز اقتصادها وتخلخلت ثقة شعوبها بها، وفي نفس الوقت الذي يتخذون فيه قراراتهم لتركيع روسيا يعيشون في حيرة بشأن البديل عن النفط والغاز والقمح الروسي، ويضربون أخماساً في أسداس بحثاً عن حلول لمواجهة الارتفاع الجنوني في أسعار الطاقة والغذاء. 

 ليست أوكرانيا وروسيا فقط الخاسرتين؛ بل العالم كله، وقد قدرت بعض المؤسسات البحثية أن خسائر الاقتصاد العالمي ستتجاوز التريليون دولار وأن التضخم العالمي في ازدياد والنمو في تباطؤ والأسعار في ارتفاع، ولم تعد الحكومات قادرة على لجمها، وخلال الفترة المقبلة سيتسبب تدفق اللاجئين على أوروبا وجوار أوكرانيا بإحداث كثير من الاضطرابات السياسية والاقتصادية في هذه الدول. 

 وبعد أن أنفق العالم تريليونات الدولارات على أبحاث وعلوم الفضاء، فإن هذه الحرب وما تبعها من عقوبات على روسيا قد تتسبب بالنيل من هذا المجال وسقوط محطة الفضاء الدولية التي تزن 500 طن على البر أو في البحر بعد أن أعلن رئيس وكالة الفضاء الروسية، أن العقوبات ستؤدي إلى اضطراب تشغيل مركبات الفضاء الروسية، التي تزود محطة الفضاء الدولية ما يؤثر في الجزء الروسي من المحطة، لتكون النتيجة سقوطها وهو ما يمكن أن تتبعه عواقب وخيمة فضائية وبيئية مدمرة. 

أنا، وأنت، كلنا خاسرون، بصرف النظر عن موقع أي منا الجغرافي على خريطة العالم، وبصرف النظر عن مدى تعاطف أي منا مع هذا الطرف أو ذاك. 

 عمال في مطاعم كبرى غربية أغلقت أبواب فروعها في روسيا فقدوا وظائفهم؛ عمال وموظفون في شركات متعددة الجنسيات أوقفت نشاطها في روسيا انقطعت لقمة عيشهم، وطلاب من دول مختلفة كانوا يدرسون في جامعات أوكرانية أصبح مستقبلهم في مهب الريح، ناهيك عن الذين تركوا بلادهم وانتشروا في أوكرانيا وروسيا ودول شرق أوروبا بحثاً عن الرزق وهم اليوم فقدوا وظائفهم أو أنهم في الطريق لذلك. 

 كلنا خاسرون، وليس من باب المبالغة القول بأن لا أحد على الكوكب إلا وتعرض لأذى نفسي ومادي. فمشاهد اللاجئين الهاربين إلى المجهول، ومشاهد الخراب والدمار، ومشاهد القتلى في كل مكان والمقابر الجماعية سببت لنا جميعاً أذى نفسياً، والارتفاع الجنوني للأسعار في مختلف أنحاء العالم سبّب للكل أذى مادياً، والأذى الأكبر للبشرية هو حالة عدم الاستقرار والخوف من عواقب هذه الحرب ومن إمكانية أن تتطور إلى ما لا تحمد عقباه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"