نظره ضعيف وعنده نظارة

00:29 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

كنت واقفاً بجانبه، حين فتح الأديب والإعلامي العماني سليمان المعمري صندوق سيارته ليودع فيه كيساً كان بيده، قبل أن ننطلق إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون في مسقط لنسجل فيه حواراً ثقافياً يجريه المعمري معي. لاحظت أن صندوق السيارة مكتظ عن بكرة أبيه بالكتب، حتى أنه لا متسع فيه للمزيد.
لم أعلق لحظتها على ما رأيت. أمر مألوف لدى المأخوذين بالكتب أن يفعلوا الشيء نفسه، أن يحولوا سياراتهم إلى حافظات للكتب، حتى تحين ساعة نقلها إلى أماكن سكنهم أو عملهم. لم أعلق لحظتها، ولكني سأعلق اليوم على ما رأيته في صندوق السيارة، لأني استعدت ذلك المشهد حين شرعت في قراءة كتابه حديث الصدور الذي حمل العنوان اللافت: «نظري ضعيف وعندي نظارة»، والكتاب مجموعة من المقالات الشائقة تعنى بالقراءة والكتب.
في مقدمة الكتاب التي عنونها سليمان بعنوان: «ليست مقدمة وإنما مجرد سرد من اللا قارئ الصغير»، أتى على ذكر الكتب التي اختارت أن تبقى في سيارته، أو اختار هو لها ذلك، بعد أن عرض بعض تفاصيل مكتبته التي اختار، متعمداً، غرفة نومه مكاناً لها، كي لا تطالها يد أحد من المهووسيين باستعارة الكتب، التي لن تعود إلى مكانها، وكلكم يعرف القول الذي غدا مأثوراً: «غبي من يعير كتاباً وأغبى منه من يعيد كتاباً استعاره».
جميل وصف سليمان المعمري علاقته بتلك الكتب التي تقاسمه العيش في غرفة نومه، حيث كتب التالي: «تنظر إليّ ليلاً وأنا نائم، تتأملني، تتصفحني، تقرأني من الغلاف إلى الغلاف، تستمع إلى سيمفونية شخيري دون تأفف».
لكن بالنسبة للكاتب، فإن سيارته ليست مجرد محطة مؤقتة للكتب قبل أن تجد طريقها إلى أرفف مكتبته، فتلك السيارة هي الأخرى مكتبة. ومحظوظة الكتب التي تكون السيارة محل إقامتها، فذلك بمثابة امتياز يمنحه صاحبها إليها، ما قد يجعل الكتب المرتاحة في أرفف مكتبة غرفة النوم تغبطها لأنها لم تحظ بالشرف الذي نالته، فالكتب التي أسكنها في السيارة ضرورية، لا لأنها أهم من بقية ما لديه من كتب، وإنما لأنها داخلة في عدّة الرجل الذي يمتهن الإعلام ويقدّم في الإذاعة برامج ثقافية، للكتاب فيها موقع القلب.
لا يليق بالكتب المقيمة في السيارة، يقول المعمري، «أن تظل حبيسة أرفف المكتبات بل ينبغي أن ترى الدنيا وتتنفس هواء الحرية المنعش، معززة، مكرّمة»، حتى لو نالها من الأذى ما لا سبيل لاتقائه، كأن تدوسها الأقدام حين تكتظ السيارة بالركاب.
هذه باقة من بستان واحد من مجموعة بساتين الكتب التي يطوف بنا فيها المعمري، قاهراً نظره الضعيف ومستعيناً بالنظارة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"