العرب والصراع الدولي

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.مصطفى الفقي

لم تعد الصراعات الإقليمية، ولا الحروب الدولية، ذات تأثير موضعي فقط، بل يمتد تأثيرها إلى كل مكان في عالمنا المعاصر، وقد ساعد على ذلك تنامي وسائل الاتصال والتقدم التكنولوجي الهائل في أجهزة الإعلام، حتى أصبحت الحروب تسمى بالحروب التلفزيونية، إذ تصل للمشاهد في كل مكان من العالم لقطات حية للصراعات التي تجري على أرض المعارك، بحيث أصبحنا بحق أمام عالم مختلف عما شهدناه في الحربين العالميتين، الأولى والثانية.

 ورغم أن مسار الحرب الروسية الأوكرانية يذكّرنا بشيء من بدايات الحرب العالمية الثانية والقرارات المفاجئة فيها، ودرجة العناد المتبادل بين القادة ، إلا أن ذلك كله لا ينفي أن تلك الحرب قد شدت انتباه المواطن العادي في كل الدول على نحو غير مسبوق، خصوصاً أن وباء كورونا قد عودنا على الاصطفاف أمام الأحداث العالمية، ولنا هنا أن نسجل بعض الظواهر الجديدة في الحرب الأوروبية الحالية:

* أولاً: إن شخصية روسيا التاريخية لم تتغيّر والأدوار لم تبتعد كثيراً، إذ إن روسيا ترى نفسها مختلفة عن القوى الأوروبية الأخرى، كما أن الحروب التي خاضتها تتسم دائماً بعنف المقاومة، وبالدور المتفرد الذي يلعبه الدب الروسي أثناء المعارك مع قدرة على التعامل مع ظروف الطقس السيئ والبرد القارس، فلا نكاد نذكر لروسيا هزيمة عسكرية إلا تلك التي جرت عام 1905 على يد اليابانيين إبان الحكم القيصري في موسكو، ورغم أن روسيا الاتحادية هي امتداد مختلف لروسيا السوفييتية التي هي مختلفة بدورها عن روسيا القيصرية، إلا أن سمات تلك الدولة تظل واحدة في كل عصورها، فهناك قاسم مشترك هو الشعور بالتفرد والرغبة الدائمة في الوصول إلى البحار المفتوحة والمياه الدافئة.

*ثانياً: إن شخصية بوتين هي تكرار ثابت لشخصية القيصر الروسي، وتحمل ملامح من بعض تصرفات جوزيف ستالين، أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي أعقابها، فالعناد الروسي يتحكم في أطراف الصراع لأنها جميعاً، في هذه الحرب الأخيرة، قد خرجت من بوتقة واحدة، وتنتمي إلى ثقافة مشتركة في عمومها، لهذا فإن ما يجري حالياً على أرض المعارك في أوكرانيا هو امتداد للعقلية الروسية التي تتسم بالإصرار، ولا تتراجع عن قرار.

ثالثاً: إنني أزعم أن روسيا، بقيادة بوتين، لن تستجيب لوساطة دولية إلا بعد أن يتحقق لها الهدف الأكبر من عملياتها العسكرية والذي يتركز على ضرورة إسقاط العاصمة الأوكرانية، والبعث برسالة إلى الغرب وقادة دول «الناتو» بأن موسكو مصممة على إخضاع المناطق المحيطة بها لسيطرتها حفاظاً على أمنها القومي ووحدة أراضيها، لذلك فإن توقف المعارك من الجانب الروسي قبل تحقيق هذا الهدف يعني بالضرورة هزيمة لسياسة بوتين.

*رابعاً: لا أظن أن الوساطة الإسرائيلية، ولا الوساطة التركية، يمكن أن تعطي بوتين مبرراً لقبولها، وأزعم هنا أن الوساطة الوحيدة التي سوف تكون مقبولة من موسكو ومرضية لها هي تلك التي تحدث عندما يتدخل التنين الصيني للوساطة. ولا شك في أن بكين ترقب ما يجري في تعاطف مع الحليف القوي، وهو الدولة الروسية بكل تراثها الذي لا يخلو من صراعات مع الصين ذاتها، وليس الخلاف العقائدي بين الصين بزعامة ماو تسي تونج، والاتحاد السوفييتي السابق في ستينات القرن الماضي ببعيد عن الذاكرة الكاشفة لنوعية العلاقات بين موسكو وبكين، قرباً وبعداً، إلا أن الجوار الجغرافي والاشتراك في نظرة الشك والريبة تجاه الغرب يجعلان تلك العلاقة بين الدولتين الكبيرتين عنصر توازن في العلاقات الدولية المعاصرة.

*خامساً: إن دور الولايات المتحدة  قبل وأثناء الحرب الأوكرانية، يثير التأمل، كأنه يبشر بعهد جديد للعلاقات بينها وبين حلفائها باعتبارها قائدة المعسكر الغربي، ولكنها تبدو هذه المرة وقد توارت نسبياً، وأطلقت إشارات أنها لن تخوض حرباً في أوروبا بشكل مباشر، ولا بالوصاية على غيرها، لأنها تدرك أن الدنيا قد تغيّرت، وأن الدور الأمريكي يتراجع في كثير من مناطق العالم. 

ونحن هنا في الشرق الأوسط شهود على تلك الظاهرة الجديدة، إذ إن نبرة البيت الأبيض وسطوة السياسة الأمريكية لم تعد كما كانت من قبل، خصوصاً بعد انسحابها المخزي من أفغانستان، واحتمال اكتمال ذلك الانسحاب من العراق أيضاً، وغيره من المناطق التي اقتحمتها واشنطن في العقود الأخيرة. ولا شك في أن بوتين يضع كل ذلك في حساباته .

  هذه قراءة موجزة لتداعيات الصراع بين روسيا وجيرانها من حلفاء الغرب، ولا شك في أن ذلك الصراع قابل للاتساع والانتشار في ظل تهديدات قادة «الناتو» في جانب، وصلابة الرئيس الروسي على الجانب الآخر، وسوف تكشف الأيام القادمة ولا شك عن المشاهد الجديدة لطبيعة العلاقات الدولية في إطارها المعاصر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"