أوهام الحرية

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

لا ينسى جيلي تلك الفورة الهائلة من التفاؤل باتساع فضاء الحرية وتجاوز القيود على الرأي وانسياب المعلومات التي سادت العالم نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن مع زيادة انتشار الإنترنت وسهولة وصول مئات الملايين حول العالم إليها. ثم تطورت هواتف الموبايل وأصبحت «ذكية» لتسهل دخول مئات الملايين إلى شبكة الاتصالات الدولية باستخدام الهاتف. وظهرت ما تسمى «مواقع التواصل» باعتبارها ثورة في الحريات وكسراً نهائياً لأي تعتيم إعلامي وأصبح «وعاظ الثورات» يروجون لما سمي «صحافة المواطن» ونهاية عصر هيمنة وسائل الإعلام التقليدية وارتفاع سقف الحريات إلى ما لا نهاية.
 في ذلك الوقت، لم يكن ممكناً لأحد السباحة عكس التيار الجارف لوهم الحرية اللامتناهية التي توفرها الإنترنت ووسائل التواصل. حتى بعض الأصوات القليلة التي حاولت التنبيه إلى أن الوفرة المعلوماتية لا تعني الحرية، وإنما قد تؤدي إلى التسطيح والجهل، ضاعت وسط «هوجة» التبشير المكثف بتلك الأدوات التكنولوجية المبتكرة.
 للأسف الشديد، لم تستفد الصحافة الحقيقية ووسائل الإعلام التقليدية من تلك الموجة بالشكل الذي يمكنها من تطوير نفسها والاعتماد على تلك التكنولوجيا باعتبارها أدوات مساعدة للمهنة. بل غرق كثير منها في مستنقع اللهاث وراء ما يبث وينشر على تلك المواقع والتطبيقات في محاولة بائسة لتفادي ابتعاد الناس عنها ولتحقيق انتشار جماهيري على حساب جودة المحتوى الذي تقدمه للجمهور. وكان ذلك أحد أسباب طغيان توجّه المعرفة عبر مواقع التواصل وهيمنتها إلى حد كبير وتراجع الصحافة والإعلام التقليدي.
 ثم حين وصلت الموجة إلى قمتها، بدأ العالم ينكشف على وهم الحرية الذي صاحب التبشير بها وتشككت الجماهير العادية، قبل الذين يعملون في الإعلام والصحافة، في ذلك المحتوى المكثف سريع الانتشار. وأصبح واضحاً للناس أن تلك المنافذ الجديدة ليست بديلاً للصحافة والإعلام، بمعنى أنها لا يمكن الوثوق بما فيها من معلومات وأخبار في ظل عمليات التزييف والتضليل وتلفيق الصور والفيديوهات وترويج نظريات المؤامرة وما يعارض العلم والعقل.
 لم تكن وسائل التواصل وتطبيقات الإنترنت بديلاً أبداً للصحافة والإعلام، وإنما هي أخذت جزءاً من تلك الصناعة وضخمته وأحاطته بسيولة معلوماتية ليست بالضرورة دقيقة ولا ممحصة. بالضبط كأنها امتداد فقط لفقرات الإعلانات التجارية والدعاية في وسائل الإعلام التقليدية، وليس للأخبار والتحليلات الآراء. وأصبحت هناك صناعة كاملة تسمى «المؤثرون» يوهمون الجمهور بأن لديهم ما يفيد بينما هم وكلاء إعلانات، إما لمنتجات تجارية أو لحملات دعاية سياسية أو حتى الترويج لجماعات متطرفة وعنصرية تتنافى تماماً مع وهم الحرية.
حتى تلك الفورات الاحتجاجية التي استخدمت فيها مواقع التواصل لحشد الجماهير من أجل تنظيم المسيرات اعتراضاً على السلطات وأدت إلى تغيير حكومات، انتهت إلى ما نراه الآن. ذلك ببساطة لأن تلك المواقع لا تبني شيئاً أصيلاً، وإنما هي توفر أداة لفعل ما يمكن وصفه بأنه «إثارة» دون أي أصل من واقع.
 لم يسلم المبشرون بوهم الحرية الذي تحققه مواقع وتطبيقات الإنترنت من تلك النتائج الكارثية. ورأينا ديمقراطيات غربية راسخة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، تتهم دولاً وجماعات باستخدام مواقع التواصل للتأثير في توجهات ناخبيها وتزييف إرادتهم بحملات الدس المعلوماتي وتوجيه الرأي العام بشكل مضلل!
 وجاءت أزمة وباء كورونا لتكشف الضرر الهائل من انتشار تلك الوسائط لتوصيل المعلومات، حيث تعاظمت نظريات المؤامرة ونشر الجهل والخرافة وتسفيه العلم والعقل. وهكذا دخلنا في دائرة مفرغة من نشر الوهم ومحاولة الحد منه!، أما الحرب الحالية في أوكرانيا فكانت فعلاً «القشة التي قصمت ظهر البعير» الذي يحمل أسفار الوهم بالحرية واستقلال الرأي. فعلى مدى بضعة أسابيع قليلة لا يمكن تصور كمّ الكذب والتضليل الإعلامي والمعلوماتي ونشر الزيف بالصورة والصوت الذي كاد في لحظة ما أن يؤدي إلى رعب نووي عالمي.
 لعل هذا الانكشاف الأوضح للجماهير على وهم الحرية، يجعل العالم يعود إلى بعض العقل ويوفر فرصة لإعادة المهنية والرصانة إلى الصحافة والإعلام. وأن يصبح دور الإنترنت ومواقعها وتطبيقاتها أدوات توصيل وانتشار لمحتوى مسؤول أكثر منها مصدراً لنشر التسطيح والجهل والكراهية والعنف والزيف.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"