الإتقان في أزمة

01:07 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تعرّف معاجم اللغة الإتقان بمعنى القيام بالعمل على الوجه الأمثل، ويدرك معظمنا أيضاً الكلمة بوصفها تتعلق بالعمل، إلا أن التفكير مرة أخرى في دلالات وآفاق الكلمة ربما يدفعنا إلى القول إن الإتقان يتعلق بكل شيء في الحياة: التعليم، القراءة، الكتابة، التفكير، مواجهة المشكلات بحلول مختلفة ومبتكرة، العلاقات الخاصة.. الخ.

إن أكثر ما يتعرض له البشر الآن من تغييرات تتعلق بعصر التكنولوجيا فائقة الحداثة يتعلق بتراجع قدرتهم على الإتقان. في الفترة الأخيرة بدأنا نقرأ عن زيادة معدلات الطلاق والتي يرجعها البعض إلى مواقع التواصل، فالعلاقة الزوجية لم تأخذ حقها في البناء حتى تستمر وتواجهه العقبات نتيجة للانشغال بتلك المواقع. وعندما ندخل إلى مكان ما بهدف إنهاء معاملة مهمة بالنسبة إلينا سنجد بعض الموظفين يوزعون نظراتهم بيننا وبين الهاتف المحمول، وعندما نرتاد السينما أو المسرح أو نذهب إلى مطعم أو حتى نسير في الشارع للتريض.. في كل هذه المواقف نحن نوزع انتباهنا بين ما نفعله وبين شاشة الهاتف، أي أننا لا نمارس الآن أي شيء بكامل انتباهنا وتركيزنا.

ربما لا يمنح البعض أهمية قصوى للنماذج السابقة، لكن ماذا عن الطلبة.. وماذا عن الباحثين والمفكرين والعلماء في مختبراتهم؟ ماذا عن تلك الأنشطة التي كانت تتطلب في الماضي عمراً مضاعفاً حتى يستطيع الإنسان تقديم منجز موزون فيها؟ هل يتفرغ أحدهم الآن على مدار الساعة لكي يتنقل من كتاب إلى آخر إلى ثالث.. للوصول إلى فكرة ما أو إثبات نتيجة يسعى إليها؟ هل يغرق أحدنا في كتاب منعزلاً عن جميع من حوله؟ هل يتأمل أحدهم في فكرة لتطويرها أو نقدها لكي يخرج منها بأطروحة جديدة؟ لم يعد لدينا الوقت، ليس لأننا أكثر عملاً واهتماماً بالأمور بكل ما ينفع الناس ويدفع إلى الأمام، لكننا أصبحنا أسرى للتكنولوجيا.

حاول البعض تعويض تراجع الإتقان، بالعمل الجماعي، فالأنشطة التي تآكل وقتها بسبب التكنولوجيا تستطيع الاستمرار نتيجة لعمل أكثر من فرد عليها، لكن كان الابتكار والتفكير والإبداع والاكتشافات المؤثرة في مدار التاريخ أعمالاً فردية، وندر أن نجد اثنين أو أكثر طوروا دواء ما أو اكتشفوا مرضاً، هذا فضلاً عن الآداب والفنون التي كانت فردية دوماً، أما الفكر والفلسفة والعلوم الاجتماعية فارتبطت بمذاهب ومدارس دارت حول مؤسسيها وإضافات تلاميذهم كأفراد أفنوا حياتهم في الدرس والتحصيل. ولذلك لم نعد نسمع عن موهبة فردية في تلك الحقول منذ عقدين أو ثلاثة.

التكنولوجيا الحديثة وتوابعها، لا تسرق الوقت الذي نمضيه في ممارسة مهامنا الرئيسية، لكنها تسرق أيضاً ذلك الوقت الذي كان الفرد يخصصه في الماضي لتطوير أدواته، وتحسين قدراته والارتقاء في العمل والحياة، ونتيجة لإحساس بسهولة الحياة تشيعه ثقافة تلك التكنولوجيا، وأن لا عقبات أمامنا، بات البشر في معظمهم كسالى لا يواجهون التحديات ولا يفكرون في تجاوزها، وتلك كانت ميزة تاريخية للإنسان جعلته يروض الطبيعة ويكتسب مكانته المميزة في العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"