الحفرة مجهولة الإقامة

01:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

عندما سقطت عربة رئيس الندوة اللبنانية ميشال أسمر ( 1914- 1984) في حفرة قُتل فيها، اهتزّ لبنان السياسي والثقافي والعديد من كبار مثقفي العرب وفرنسا ومفكريهم على هذا الحدث. كان الرجل قد أسّس «الندوة اللبنانية» عام 1946 بصفتها قاعة محاضرات بسيطة لطالما حاضر فيها لفيف من النخب اللبنانية والعربية والعالمية في كلّ أسبوع من طراز تقي الدين الصلح وكمال جنبلاط وشارل مالك وأدونيس وناظم حكمت ورينيه حبشي وغيرهم كثر، ما جعلها «دولة المفكرين والمثقفين» الباحثين عن لبنان الجديد حتى ال1975؛ تاريخ اندلاع الحروب الأهلية التي بقيت تتناسل بمختلف الأشكال والألوان والكوارث حتى اليوم.

 يمكنني أن أتذكر هذا الصديق الأسمر الذي عبّد طريقي نحو الدراسات العليا في باريس، ويمكننا أن نستلّ حبره وموته اليوم سيفاً جديداً نشهره في وجه هذه الدولة المفترسة؛ إذ ليس كلّ حوادث السير في لبنان هي قضاء وقدر، بقدر ما هي إهمال وتخلّف وحفر وعدم انتظام يسمح لأيّ منا أن يشهر دعاوى دولية ضدّها مع أنها الدولة المجهولة الإقامة التي تفتك بأبنائها. 

 وإذا كانت مخالفات السير تعد جرماً مشهوداً، فلا تتخطى السرعة في باريس عاصمة فرنسا مثلاً ال30 كيلومتراً في الساعة، فإنّ سقوط اللبنانيين في حفر لبنان جرائم عالمية هائلة. 

 من الذي سمح ويسمح، وبموجب أي قانون أن تغطّي اليافطات الإعلانية الأوتوسترادات والطرقات وأسطح المباني، لتضج مضيئة بإعلانات تعود فقط لأبناء المسؤولين، وبكافة الألوان والأشكال؟!، بينما نرى الشوارع غارقة في ظلمات القبور؛ حيث الورش المفتوحة أبداً في طرقات لبنان من دون أي تنظيم أو تنسيق أو مراقبة أو إشارات ضوئية تحذيرية للمارين تجعلهم في جهنم بالفعل، وكأن وظيفة دولتنا القتل المنظم لمواطنيها 24/24.

 يا لهول هذه الدولة الغريبة العجيبة يتشابك مسؤولوها بتفاهات السياسة وقشورها! 

لقد باتت السياسة والوطن عيباً وعاراً أيها السادة، وكأنّه لم يبق في لبنان اليوم ما يُذكّر بميشال أسمر إلاّ تلك الحفر الفكرية والسياسية، وخصوصاً حفر طرقات لبنان، تُعلن تفاهة مشاهد الموت وحوادث السير في جنون وطن منسي اسمه لبنان.

 من الذي يحرم تلك الدولة اللبنانية العليّة من تطبيق هذه القوانين البسيطة قبل معزوفات الحرية والسيادة والاستقلال الفارغة؟ 

 ألم يسمعوا من أولادهم عن دول الخليج وبلاد العالم والقوانين الصارمة التي تحفظ الناس؟ 

 هل يعرف وزراؤنا في الشؤون الداخلية أعداد الذين سقطوا وتشوهوا من شباب هذا البلد مثلاً على «أوستراد نهر الموت» فقط حتى الآن ومثله الطرقات السائبة المماثلة؟

هل يفكر السياسيون في لبنان إذ يضعون ربطات أعناقهم ويدفعون ممثليهم للتعزية بقتلى حوادث السير نحو الصفوف الأولى بما يتمتم به الناس البائسون وقد أكملوا واجباتهم الدينية والدنيوية؟

 هل يفقهون ما يختزنه الريق الذي يبلعه الناس مجبولاً بفقرهم وأحزانهم ودموعهم، وهم مغلوبون ومقهورون بتراكم الخوف والموت اليومي والإهمال وغياب الدولة الكامل؟

صدقوني يكمل بقايا اللبنانيين أعمارهم اليوم فوق الشرفات المشلعة بانتظار بناتهم وأبنائهم للعودة سالمين إلى بيوتهم، خوفاً من كوارث السير عبر السيارات والفانات والشاحنات غير المرمزة أو رعباً من لصوص الشوارع وعصابات الخطف والتشبيح والتشليح.

 أتذكّر وزيراً ألزم الناس بشراء المطافئ والمثلثات الفوسفورية ووضعها في صناديق عرباتهم فقط، لأنه جمع من وراء صفقته ثروة، وصدئت المطافئ ولم تُستعمل؟! 

 وأتذكر الوزير الثاني الذي أجبر  قانوناً  اللبنانيين على ربط الأحزمة، ومنع سير الدراجات النارية التي كان لا يمكن تصور أعدادها ثمّ فتح مراكز للمعاينات الإلزامية الميكانيكية ولم تكن سوى صفقات جديدة لا تنتهي قصصها الملوثة بالنهب؟! 

جاءنا وزير ثالث ليوزع لوحات ضبط السرعة في «الداون تاون» فقط والعديد من الطرقات لكنها بعظمها لا تعمل؛ حيث لا كهرباء في لبنان.

 ثم أتانا وزير رابع ليغير لوحات سيارات اللبنانيين كلها تغييراً جذرياً؛ تحقيقاً لصفقة مُدهنة وهكذا دواليك...

 كان يكفي رصد أعداد من قوى الأمن الداخلي لشهر واحد فقط؛ اسمه شهر ضبط السير، تُحجز فيه رخص القيادة والعربات المسرعة، ويُساق المخالفون وزارعو الموت إلى التوقيف الاحتياطي حتى ولو كانوا بأغلبهم من أبناء الزعماء أو سائقيهم ومرافقيهم في عرباتهم السوداء يطيرون في حفرة اسمها لبنان يُدفن فيها المواطنون البسطاء بالعشرات كل يوم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"