التخلي عن سياسة الحياد

01:01 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

على مدى الأيام الماضية المترعة بالأحداث، يعيش العالم مزيجاً من صراع المبادئ، وتباين المصالح، وانعكاس المفاهيم، ما يجعلها مرحلة ثقيلة الوطأة، مفصلية التأثير، وجسيمة الأثر.

  فالأحداث الجارية تتنازعها الأهواء، وتغشاها الضبابية، ما يخلق نوعاً من القلق السياسي والاقتصادي، وقبل ذلك القلق الإنساني الذي يواجه ظلمة المصير المجهول الذي ينشر ظله الطويل جراء الحرب في أوكرانيا والتي غيرت المعادلات القائمة في أوروبا والعالم، ودفعت دولاً أوروبية عديدة إلى تغيير سياساتها القائمة، ومن هذه الدول سويسرا التي عُرفت بانتهاج سياسة الحياد منذ أكثر من مئتي عام، لكنها الآن قررت الاصطفاف إلى جانب شقيقاتها الأوروبيات، وقررت فرض عقوبات على روسيا؛ حيث أعلن الرئيس السويسري إغناسيو كاسيس، بعد اجتماع مع المجلس الفيدرالي السويسري في 27 فبراير 2022، أن بلاده ستجمد على الفور أصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين، ووزير الخارجية سيرغي لافروف، وكذلك جميع الأفراد ال367 الذين فرض عليهم الاتحاد الأوروبي عقوبات. بهذا الإجراء تكون سويسرا قد هدمت أقنومها الجوهري في الزمن والممارسة.

    ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل انضمت سويسرا كذلك، إلى جيرانها الأوروبيين في إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية.

ويشكل هذا الموقف السويسري المفاجئ دليلاً على أن الأوروبيين يخافون من أن تميل موازين القوى لصالح روسيا، ومن خلفها الصين، وبالتالي فهم يرون أن الوقوف على الحياد في هذا الوقت، وفي مثل هذه المواجهة المصيرية سوف يسدل الستار على نهاية مأساوية لهم كدول.

 وبعد تجميد رؤوس الأموال الروسية في سويسرا، فإن سمعتها كوجهة مثالية للمال قد تتأثر، إن لم يكن الآن، فعلى الأقل في المستقبل القريب. ربما هذا أمر، بسبب طبيعة هذه الأزمة، لا يعنيها فلديها من الأموال ما يُقدر بمئات المليارات من الدولارات المخزنّة في بنوكها، وهي تستطيع، بجرّة قلم، تجميد كل هذه الأموال، والاحتفاظ بها في بنوكها، بالاتفاق مع الدول الحليفة لها.

 لقد أصبحت الأزمة الأوكرانية مفصلاً في السياسة الدولية، بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، وبين روسيا والصين والدول الحليفة لهما من جهة أخرى. فالغرب قد استنفذ كل طاقاته، ولم يعد لديه اليوم شيء يستطيع من خلاله أن يقهر أعداءه، فما لديه من سلاح يوجد لدى أعدائه ما يفوقه كماً ونوعاً، وما لديه من قوة اقتصادية ليست كافية وحدها لفرض إرادته مع خصم يملك البديل، فضلاً عن تسلحه بقدرات اقتصادية وطبيعية تفوق ما لدى الغرب بمراحل عديدة، فما لدى الصين من ودائع دولارية يفوق كثيراً ما لدى الولايات المتحدة نفسها، وباعتراف كبار صنّاع السياسة الغربيين، فإن الصين تحولت إلى مصفاة للدولار الأمريكي من مختلف بقاع العالم، وهي تستخدم هذه الثروة الطائلة في تحقيق قفزات علمية هائلة، وأيضاً في تكوين تحالفات وشبكة علاقات دولية واسعة.

  ومن هنا بات الغرب يشعر بالخوف من الحاضر والمستقبل، وحالة الرفاه التي يعيشها، كإحدى ثمار انتصار الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية والتي جذبت إليه ملايين الجائعين من دول العالم النامي، سوف تنتهي، لأن الثروة العالمية يممت وجهها نحو مكان آخر؛ حيث شرق آسيا؛ الصين وكوريا الجنوبية واليابان، خاصة الصين التي تحولت غولًا اقتصادياً يهدد عرش الولايات المتحدة الأمريكية.     

   لذلك تغيرت أوروبا، واستنفرت كل قواها لمواجهة خطر زوال النعمة عنها، وهو خطر بات وشيكاً جداً، لأن الخيارات أمام الغرب محدودة، وسياسة العقوبات التي ينتهجها ضد روسيا والصين، لن تجدي نفعاً، أمام النذر باشتعال حرب عالمية ثالثة، تختلف عن سابقتيها، خاصة فيما يمتلكه كل فريق من أدوات كافية لتدمير الكرة الأرضية. لذا فالتصعيد ليس في صالح الغرب، ومن هنا فمن المتوقع أن يشهد العالم، بهذه الأزمة، انقلاباً مصيرياً في ميزان القوى قد يمتد لعقودٍ طويلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"