عادي
العمل الفائز بسبع جوائز في المهرجان

«رحل النهار».. فرجة ملحمية برافعة الشعر

00:53 صباحا
قراءة 5 دقائق
مشهد من العرض
تصوير: محمد الطاهر

الشارقة: علاء الدين محمود
في ختام عروض مهرجان أيام الشارقة المسرحية، شهد قصر الثقافة أمس الأول الخميس، عرض «رحل النهار»، لفرقة مسرح الشارقة الوطني، تأليف: إسماعيل عبد الله، إخراج: محمد العامري، بمشاركة نخبة من النجوم بقيادة أحمد العمري.

«ختامه مسك» ذلك هو الوصف الذي يستحقه عرض «رحل النهار»، الذي كان عبارة عن ملحمة مسرحية وشعرية، وظف خلاله المخرج أدوات مسرحية متعددة، وقدم رؤية إخراجية مميزة لنص احتشد بالرؤى الفكرية والفلسفية والصور الجمالية.

يتناول العرض المشهد العالمي المعاصر، وما يدور فيه من صراعات ومشاكل وفتن وحروب وظهور جماعات تتدثر برداء الدين بعقول مغلقة صماء لا تقبل بالحوار ولا تركن للتسامح، وأحزاب أيديولوجية تختزل الحزب في قائده ذلك الناهي والآمر والمقرر لمصير كل من معه، ومجموعات من المثقفين الخونة الذين لا تهمهم غير مصالحهم، كما يعقد العرض محاكمة للشموليات في كل مكان تلك التي أرهقت العالم وأزهقت الإنسانية، كما يتناول العمل سرقة الأحلام الشاردة التي داعبت أفق الناس أينما كانوا.

بطبيعة الحال فإن العرض يركز بصورة أساسية على ما يجري في كثير من الدول العربية، من انتشار للصراعات، وانتشار المجموعات المتطرفة والاقتصاديات المنهارة والجهل، والتخلف الاجتماعي، والأنظمة الأيديولوجية الشمولية يميناً ويساراً، وهي العوامل التي تتحالف لكي تحاصر إنسان تلك البلدان، بالتالي لا تترك أمامه من ملجأ غير أخذ عصا الترحال ليضرب في الأرض بحثاً عن حياة أفضل، يعيش حياة اللجوء في كنف بلاد غريبة عنه، ليتذوق الويلات وطعم الذل.

جنة متخيلة

ويلقي العمل نظرة عميقة إلى بؤس البشرية، ومشاهد مراكب وسفن الموت، التي تحمل الآلاف من البشر من العالم العربي وغيره، الذين يحلمون بالحرية والعيش الكريم في جنة الغرب المتخيلة، فيهم من يصل إلى هناك، فيجد أن كل أحلامه مجرد سراب، ومنهم من يلقى حتفه إذ يبتلعه البحر، هؤلاء الذين تشردوا عن أوطانهم بسبب البؤس والاضطهاد الذي عاشوه هناك، حيث الفساد السياسي والحروب والشموليات، رحلوا ورحل معهم النهار والأمل في غد أفضل.

صوت

لكن صوت، في العرض، ينادي أبناء الوطن ألا يتركوه ويرحلوا، وأن يظلوا متمسكين به ليعملوا من أجل بنائه ونهضته ورفعته، فالأوطان تعتمد على أولادها، كما أنها ليست مسؤولة عن الشرور التي تحل بها، ليست هي السبب في وجود الصراعات والحروب، فأطماع البشر هي التي تقود لمثل تلك النزاعات، وأنانيتهم هي التي تخلق التنافس، ويستمر ذلك الصوت في زرع الأمل بأن الغد هو الأفضل، وأن الغائبين حتماً سيعودون في يوم ما إلى حضن أوطانهم ليسهموا في ازدهاره، وطرد الشرور عنه، فهم في تلك المنافي غرباء ولن يشعروا بالانتماء الحقيقي إلا في حضن البلاد التي أنجبتهم وترعرعوا فيها، فلا بد من الأمل، فاليأس هو عدو الإنسان الأول.

نص العمل جاء محتشداً بمختلف الأفكار والرؤى الفلسفية والإنسانية والنفسية، حول واقع العالم وراهن الأمة العربية، رسم صورة قاتمة بلغة شعرية ملحمية، واستعان بعدد من الشعراء العرب المعاصرين من أمثال: محمود درويش، وبدر شاكر السياب، وأولاد أحمد، وأبو القاسم الشابي، وأحمد مطر، وغيرهم ممن تحمل نصوصهم وقصائدهم معاني الوطنية الرفيعة، والدعوة إلى رفع الهمم والتمسك بالأمل والعمل من أجل بناء الأوطان.

عمل النص على إجراء حوارية شعرية بين تلك النصوص، التي استعان بها من أجل تحليل الواقع العربي وقراءته، بالتالي وضع الأجوبة عن التساؤلات العاصفة والحارقة حول المصير وإمكانية العبور نحو مرافئ أفضل، ليصبح هو نفسه قصيدة حزينة، لكنها لا تخلو من أفق وبارقة أمل، كما أن النص اتسم بسيولة اللغة إلى حد صناعة الصور الشعرية والمشهدية، ويغوص عميقاً في المشهد العربي تحديداً الذي يسود فيه مناخ اليأس والإحباط، ليقدم خطاباً يبحث في كيفية استنهاض الأمل وعودة الحياة في البلدان التي مزقتها الصراعات وسادت فيها حالة من الفوضى وانعدام الاستقرار والأمن والسلام.

طوق نجاة

تلك الغنائية والحالة الشعرية، التي يقدمها النص، هي طوق نجاة يقترحه الكاتب، حيث أن الشعرية في العمل تنهض على رؤى وأفكار، وليست مجرد هتافية تملأ الحناجر قبل العقول، فالنص لا يؤسس لحالة عاطفية بقدر ما يدعو بصورة ملحة للتفكير المستمر والعمل الجاد المنتج للأسئلة والأجوبة في ذات الوقت، كما أنه يحمل دعوة للمثقفين بالالتصاق بشعوبهم والوقوف معهم في معاناتهم والتعبير عنها بصورة جادة، فالنص بمثابة خريطة طريق للعبور نحو واقع أفضل، ويبدو من الواضح أن المؤلف قد لجأ إلى تلك الحالة الشعرية، من أجل تمرير ثقل الحمولة الفكرية والأيديولوجية، كما أنه ترك العديد من الفراغات النصية التي يملأها المتلقي.

تجريد

على الرغم من أن النص يتناول الواقع العالمي والعربي، إلا أن الرؤية الإخراجية تستعين بفضاء مفتوح وزمان ومكان غير محددين، في محاولة للتجريد والابتعاد عن المباشرة والواقعية، فالعرض ينفتح في بدايته على مشهد القتل، لتكون الدماء حاضرة، وصوت أزيز المدافع والطيران الحربي يملأ السمع والبصر، ويصيب القلوب بالهلع والخوف، وحتى يقوي المخرج من تلك المشهدية التي تنفتح على أجواء الحرب، ويجعلها أكثر تأثيراً، فإنه يضعنا أمام واقع مقتل عريس وعروسه في يوم زفافهما، ثم مشهد آخر لرؤوس معلقة هي حصاد المعارك، ليفقد المكان الإحساس بالأمان، لكن أفراده يعملون من أجل ألا يفقدوا شعورهم بالحياة، وفي المشهد الأخير يستعين المخرج بمشهد فنارة ترمز للأمل، لكنها تأبى أن تنير، هي بالتالي نهاية حزينة تماماً كما هو الواقع، لكنها في نفس الوقت مفتوحة على كافة التأويلات، ليصنع المخرج بدوره فراغاً ينتظر خيال المتلقي.

المعالجة الإخراجية للعمل جاءت مميزة، حيث احتشدت الخشبة بكل أشكال التقنيات المسرحية، كما قدّم المخرج رؤية متطورة ومختلفة في توظيف التكنولوجيا الحديثة، ونجح عبر حالة غنائية، اتسم بها العرض، في تمرير الحمولة الأيديولوجية الثقيلة، وجاء توظيف السينوغرافيا بصورة مميزة، وكذلك الأزياء والإضاءة والديكور، ليكمل الأداء التمثيلي تلك اللوحة الباهرة بأدائية عالية ومميزة.

معادلات بصرية

نجح المخرج في التصدي لنص محتشد بالأفكار وباللغة الشاعرية، عبر التمكن من إيجاد معادلات بصرية جمالية، تعكس وتفسر مقولات النص، عبر تشكيل الصور وصنع الدلالات والعلامات، ليسهم كل ذلك في خلق حالة مسرحية بصرية واضحة، بحيث يفهمها المتلقي مهما كانت خلفيته، ما يشير إلى تمكن المخرج من أدواته التي استطاع عبرها تقديم عرض جمالي مميز وباهر ينتمي إلى فئة الأعمال الملحمية بامتياز، وعلى الرغم من محاولة المخرج قدر الإمكان الانفكاك من هيمنة النص وصنع موقف مسرحي خاص، إلا أن العمل جنح في لحظات قليلة نحو الخطابية، غير أن العرض في عمومه جاء مميزاً ونجح في المسألة الأهم، وهي تحقيق شروط الفرجة عبر خلق علاقة بين الخشبة والمتلقي الذي تفاعل مع العمل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"