كل الفوضى الممكنة

01:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. كمال بالهادي

أمريكا التي فشلت في سوريا وفي اليمن وفي ليبيا وفي أوكرانيا الآن، وقبل كلّ هذا فشلت في قيادة العالم لتحقيق سلام شامل وعادل في فلسطين المحتلّة، تسعى الآن، إلى بثّ الفوضى الممكنة في كلّ منطقة تقدر عليها.

فبعد أن سار الرئيس السابق دونالد ترامب في ركاب التغيرات العالمية وقبل إنهاء حكم «الإخوان» في دول ما يسمى ب«الربيع العربي»، يبدو أن إدارة بايدن تريد العودة إلى الوراء باستخدام سلاح «الأخونة» و«الدعوشة» لبثّ الفوضى من جديد في المنطقة الرخوة التي ظلت تتلاعب بأمنها القومي على مدى عقود طويلة، ونقصد طبعاً المنطقة العربيّة.

أمريكا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تقدر على بث الفوضى إلاّ في الوطن العربي، فهي عجزت عن المساس بأمن كوريا الشمالية الدولة المحاصرة منذ سنوات طويلة، وعجزت عن تنفيذ مشروعها في كوبا وفنزويلا على الرغم من كل محاولاتها وها هي الآن، تستجدي الأخيرة من أجل نفطها الوفير. أما في الدول العربية فلم تترك بلداً قوياً أو ضعيفاً إلاّ وسعت لتركيعه والتدخل في شؤونه. والقصص المؤلمة في هذا الشأن لا تخفى على أحد.

المتابع لشؤون المغرب العربي سيلحظ أن أمريكا تسعى بكل قوتها، لفرض أمرين، فإما الولاء لها أو بث الفوضى، ولم لا الدفع إلى احتراب أهلي لتغطية فضائحها في أوكرانيا. فإن تكليف ستيفاني وليامز راعية المصالح الأمريكية في ليبيا، بتعطيل انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وإعادة البلد إلى عهد الحكومتين المتوازيتين وانقسام المؤسسات، وإلى حالة التحشيد العسكري الذي ينبئ بعودة الحرب في العاصمة طرابلس (وهذا ما يتضح من خلال تصريحات أكثر من طرف ليبي)، فإن مساعدة وزير الخارجية الأمريكي أزرا زايا، تقبع منذ أيام في تونس، في مسعى لإعادة «الإخوان» إلى الواجهة، والضغط على الرئيس قيس سعيّد واستغلال وضعية الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس للتأثير في الرأي العام، ودفع البلد إلى حالة من الفوضى إذا لم يقبل الرئيس سعيّد أن يكون في خانة الدول المصطفة إلى جانب الولايات المتحدة. وهذا يذكرنا بوضعية حرب احتلال العراق عندما أطلق جورج دبليو بوش تصنيفه الشهير: «من هو ليس معنا فهو ضدّنا»، وعلى ذلك الأساس تمت معاقبة عديد الدول.

قد يتساءل البعض لماذا ليبيا وتونس؟ وما الأهمية الاستراتيجية لهذين البلدين؟ يبدو واضحاً أن أمريكا فشلت في التأثير في مصر والجزائر في الانضمام إلى حلفها وتنفيذ العقوبات التي فرضتها على روسيا؛ بل على العكس من ذلك، فالجزائر تبدو حليفاً قوياً لروسيا والصين، ولديها ورقة الغاز باعتبارها سلاحاً قوياً في هذا الصراع الدائر حالياً. 

ومصر رفضت رفضاً صريحاً المطالب الأمريكية بإغلاق قناة السويس أمام روسيا، ما دفع سفراء الدول السبع إلى الاستنجاد ب«حياد عبد الناصر» في اتهام صريح لمصر بأنها غير محايدة. والخليج العربي المستفيد من ارتفاع أسعار الطاقة، أظهر نأياً بنفسه عن الصراع الدائر حالياً، ويرفض الاستجابة للضغوط الأمريكية والانضمام إلى الدول المعاقبة لروسيا. إذن تبقى منطقة يمكن للولايات المتحدة أن تتسرب منها هي منطقة المغرب العربي بإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار.

إنّ الصراع الدائر حالياً هو حرب مباشرة بين معسكر غربي تقوده أمريكا، ومعسكر شرقي تقوده الصين، وتتولى روسيا تنفيذ أجنداته في استعادة لحروب قديمة، كان محورها تنازع السيطرة على العالم. ولذلك فليس هناك من منطقة آمنة أو غير معنية بالحرب. فأمريكا تريد توسيع رقعة الصراع إلى أبعد حد ممكن، بعد أن فشل محورها في تنفيذ سلاح العقوبات الاقتصادية. في جنوب روسيا على سبيل المثال، يتم تحريك جبهة أذربيجان لتشتيت جهد الجيش الروسي، وفي جنوب المتوسط، هناك محاولات لاستثمار نكبة «الإخوان» لإعادتهم للمشهد أياً كان الثمن، فهم حلفاء أوفياء لواشنطن، وقادرون على تجنيد الآلاف من المرتزقة لحرب أوكرانيا لو عادوا إلى الحكم. 

ولكن أمريكا التي ورطت أوروبا في حرب خاسرة، لا تريد أن تقبل أن العالم قد تغيّر وأنّ حكم العالم بآليات القرن الماضي لم تعد ممكنة، فكل الشعوب نهضت ووعت أن أمريكا ليست قدراً محتوماً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"