عادي
حكاية إنسانية تحصد 3 «أوسكار» و56 جائزة عالمية

«كودا».. صوت الصُم

22:46 مساء
قراءة 5 دقائق

مارلين سلوم

بعد اختتام موسم توزيع الجوائز العالمية بحفل «الأوسكار» الذي ينتظره صناع السينما والهواة كل عام، يبدأ الجمهور في البحث عن الأعمال الفائزة ليشاهدها أو يعيد مشاهدتها بنظرة مختلفة، خصوصاً أن «الأوسكار» هذه المرة لم يكن عادياً، بل جاء مدوياً لأسباب عدة، منها «كسر العزلة» التي فرضها فيروس «كورونا»، وإقامة الحفل بحضور كل الضيوف النجوم في الصالة لا افتراضياً، كما العام الماضي، والصدمة التي أثارها النجم ويل سميث بصفعه مقدم الحفل زميله كريس روك قبل حصوله، ولأول مرة، على«أوسكار» أفضل ممثل.

فوز «كودا» بجائزة «أفضل فيلم» وهو أيضاً فوز غير عادي، باعتباره أول فيلم معظم أبطاله من ذوي الهمم وتحديداً من الصم. بطله تروي كوتسور أول ممثل أصم ينال «أوسكار» أفضل ممثل مساعد، علماً أن شريكته في البطولة مارلي ماتلن صماء أيضاً وسبق أن نالت «أوسكار» أفضل ممثلة عام 1987، وبفضل هذا العمل تعتبر «أبل» أول منصة تنال «أوسكار» عن أفضل فيلم.

«كودا» من الأفلام التي لا تحتاج إلى مقدمات كي تفهمها أو تتعب كي تصل معها إلى صلب الموضوع والأحداث، فالمخرجة وكاتبة السيناريو سيان هيدر، وهي أيضاً فازت ب«أوسكار» أفضل سيناريو مقتبس، لا تحب تضييع الوقت والحشو أو التطويل بلا فائدة، بل تذهب مباشرة في كتابتها وحواراتها إلى الهدف، لذلك تشعر طوال الوقت، أنت كمشاهد، بارتياح ووضوح في الفكرة والقدرة على استيعاب ما تشاهده ببساطة. ورغم أن الفيلم يتضمن فلسفة ونظرة اجتماعية وحياتية إلا أنه يخلو من التعقيدات والفذلكات و«الفلاش باك» والكلام المبطن أو العلاقات المعقدة. هو مأخوذ عن قصة فيلم فرنسي «عائلة بيلييه» (2014) ونجحت من اقتبسته، سيان هيدر، في الارتقاء بالمستوى وتقديم رؤية جميلة ومختلفة، مستفيدة من الانتقادات التي طالت النسخة الفرنسية، لاسيما احتجاج أصحاب الهمم، خصوصاً من فقدوا السمع والنطق، على عدم إسناد البطولة لممثلين منهم، فاختارت هيدر ثلاثة ممثلين أقوياء مصابين بالصمم ليلعبوا دور عائلة «روسّي» التي تتكون من الأب فرانك (تروي كوتسور) والأم جاكي (مارلي ماتلن) والابن الأكبر ليو (دانيال دورانت) والابنة الجميلة والوحيدة السليمة السمع والنطق روبي والتي أدتها باقتدار شديد إميليا جونز واستحقت عن هذا الأداء السلس والمميز مجموعة جوائز من مهرجانات عدة، ويمكن القول إنها «دينامو» الفيلم وأحد أهم ركائزه. الشابة البريطانية ذات العشرين ربيعاً أتقنت دور روبي ابنة ال 17 عاماً المنقذة لعائلتها والسند القوي الذي يتكئون عليه كي يستطيعوا العمل في مهنة صيد الأسماك والتواصل مع الناس من حولهم في بلدتهم كيب آن الساحلية في جلوستر؛ وكيف لا تتميز إميليا وقد أخذت الأمر بجدية وعملت بمنتهى الحرفية، حيث أمضت تسعة أشهر في تعلم لغة الإشارة، وتلقت دروساً في الغناء، كما تعلمت كيفية تشغيل سفينة صيد وتخزين السمك على متن السفينة بعد صيده مباشرة؟

عالم حقيقي

من أول لقطة تأخذك المخرجة إلى عالم حقيقي وواقعي فتأسرك وتجبرك على الإحساس بأنك تشاهد تصويراً حقيقياً وأن أسرة روسي المترابطة المكافحة موجودة بالفعل، وأنك تتنقل مع كاميرتها في بلدة يعيش غالبية سكانها من مهنة الصيد، وتنقل معاناتهم مع تاجر يسرق تعبهم فيشتري الأسماك بمبالغ زهيدة ويكسب أرباحاً طائلة. التصوير من على مركب عائلة روسي وتفاصيل الصيد أرادته المخرجة حياً فزاد العمل جمالاً. ومن خلال روبي، تعالج القصة مشكلة طالبة مجتهدة في المدرسة الثانوية تستيقظ كل يوم في الثالثة فجراً لتذهب مع والدها فرانك (كوتسور) وشقيقها ليو (ديورانت) لصيد السمك على متن سفينة يملكها الأب، بينما تقوم الأم جاكي (ماتلن) بأعمال المنزل الروتينية. تتولى روبي مهمة الترجمة في أي مكان يذهب إليه أهلها، سواء لزيارة الطبيب أو في اجتماعات الصيادين. ومن الصيد تتحرك روبي بالدراجة نحو مدرستها وهي طالبة في الثانوية تحلم بدراسة الموسيقى ولا أحد يعلم أنها تملك صوتاً ملائكياً جميلاً، إلى أن جاءتها فرصة تسجيل اسمها للانضمام إلى فريق «الكورال» في المدرسة، كي تكون بالقرب من زميلها مايلز (فيرديا والش بيلو) المعجبة به بصمت.

تتعرض روبي للتنمر طوال الوقت لأنها ابنة «العائلة الصماء» كما يطلقون عليها، ولأنها تعمل مع والدها في صيد السمك، ما يجعلها منعزلة ومنطوية على ذاتها ولا أصدقاء لديها سوى واحدة جيرتي (إيمي فورسيث). من حسن حظها أن مدرّس الموسيقى ومدرب الفرقة في المدرسة هو برناردو فيلالوبوس (أوجينيو ديربيز) أو «الأستاذ في» كما يطلب من تلاميذه مناداته، فهو من يتمكن من مساعدة روبي على تجاوز خجلها والتعبير عن نفسها والقفز فوق عقدتها من التنمر والمتنمرين، وفوجئ بأنها تملك صوتاً جميلاً لدرجة أنه اختارها وزميلها مايلز ليقدما ثنائياً غنائياً في حفل المدرسة، وشجعها على تقديم أوراقها للالتحاق بكلية بيركلي للموسيقى في بوسطن، وتولى بنفسه تدريبها على الغناء يومياً بعد انتهاء الدوام وفي بيته حيث يقيم مع زوجته وطفلته.

كلمة «كودا» تعني المقطع الختامي لمقطوعة موسيقية، وهي تشكل عنصراً إضافياً مرتبطاً بالهيكل الأساسي للمقطوعة، وهي أيضاً الكلمة التي يعرف بها فاقد النطق عن نفسه ليقول إنه يتحدث بلغة الإشارة. ويبدو أن المخرجة والكاتبة سيان اختارتها لترمز إلى وجهي القصة، الدرامي الإنساني، والموسيقي الفني، وفي الحالتين تعبر الكلمة عن بطلة الفيلم الأولى روبي. وهنا لا بد من الإشارة إلى الحوار الذكي الذي أجادت كتابته سيان.

مشاعر وأفكار

من أجمل ما تضمنته كتابة سيان، الحوارات التي تحمل مشاعر وأفكار مفاجئة، لا يتوقعها المشاهد، منها الحوار بين الفتاة وأمها حين سألتها روبي «هل تمنيتِ أن أكون صماء؟»، فأجابتها أمها «نعم»، شارحة السبب، بأنها لحظة إجراء اختبار السمع لروبي حين ولدت في المستشفى، تمنت الأم أن تكون ابنتها مثلها ليس من باب الأنانية، بل خوفاً من أن تتحول علاقتها بها إلى علاقة جافة ولا تعرفان كيفية التواصل بينهما، كما هو حال جاكي مع أمها، وعاشت في قلق دائم من أن تكون أماً سيئة لا تفهم ابنتها. كذلك حوار روبي مع مايلز حيث يفاجئها (ويفاجئنا) الشاب بقوله إنه يحسدها على حياتها المستقرة، ونحن نعلم أنها فتاة لا تهدأ وتشقى لدرجة أنها تنام خلال الحصص في المدرسة، ورغم ذلك هي متفوقة. مايلز يحسدها لأنها تعيش في أسرة متضامنة وعلاقة الحب بين والديها تمنح البيت دفئاً، بينما يعيش هو بين أبوين يتشاجران باستمرار والخلافات ستصل بهما إلى الانفصال والتشتت. ولا يمكن تجاوز مشهد حضور والدي وشقيق روبي للحفل الغنائي في المدرسة، ومشاهدتهم كل أولياء الأمور يستمتعون بصوت ابنتهم وهي تغني، وهم عاجزون عن سماعه أوالإحساس بها، وتتفوق المخرجة بلقطة مؤثرة حيث تقطع الصوت فجأة فتجعل الجمهور كله أصم، يرى الشفاه تتحرك ولا يسمع شيئاً.. تلاه مباشرة مشهد طلب الأب من ابنته أن تغني له الأغنية التي أدتها في المدرسة فيضع يده على رقبتها ويتابع حركة شفتيها ليشعر ويفهم فيتأثر باكياً. المشهد رائع وأداء كوتسور عبقري.

تتقلب أحوال الأسرة، ويدفع الفيلم باتجاه إجبار الآخرين على تعلم كيفية التواصل مع الأصم، ولا يترك العبء عليه فقط في مواجهة المجتمع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"