أزمة القراءة الوظيفية

00:48 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يتحدث كثر عن القراءة من زوايا مختلفة، خاصة في ظل التراجع الواضح لمعدلاتها في العالم العربي، بهدف جذب مزيد من القراء المحتملين. بعضهم يكتبون وصاياهم لمن يقبل على القراءة، لماذا نقرأ..و كيف..ومتى؟ ويرشحون مجموعة من الكتب ويسترسلون في أساليب القراءة..الخ، ولكنهم وهم يفعلون ذلك ينزعون فعل الحرية عن القراءة، وهو أهم مفاصلها. فإحدى أبرز جماليات القراءة أن نجرب.. أن نختار بعشوائية في مرحلة تفتح وعينا على المعرفة، أن نحتفظ لأنفسنا بذكريات خاصة عن كيف ولماذا أمسكنا بأول كتاب في حياتنا، وكيف قادنا هذا الكتاب إلى غيره، وكيف تشكلت قناعاتنا ببطء وعلى مهل حتى تكونت وجهة نظرنا في الحياة، وكلها خطوات فردية تتشابه أحياناً بين عدة قرّاء، وفي أحيان أخرى نسترشد بخبرات من سبقونا إلى أفق القراءة، ولكنه مجرد استرشاد يخلو من وصاية إذا دخلت في القراءة أفسدتها.

 البعض الآخر لا يزال قابعاً في موازنة انتهت موضتها بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، فريق ثالث ينظر من علٍ إلى مواقع التواصل الاجتماعي وتغولها رويداً رويداً على البشر بطريقة لا تسمح لهم بفعل أي شيء إلا التحديق في الشاشة، بما يهدد القراءة في مقتل. فريق رابع يأخذه حنين جارف وهو يتحدث عن ملمس الورق مقارنة بالشاشة الإلكترونية الباردة. زاوية نظر خامسة تعلق على القراءة آمالاً كبرى، فنحن نستطيع من خلال زيادة معدلاتها حل جميع مشاكلنا، وبعضهم لا يحلو له الكلام عن القراءة إلا بأن يتطرق بنصائحه إلى الأهل، وخاصة الأمهات، فعليهن مهمة ترغيب الأطفال في القراءة، وهنا أزمة ملحوظة، فمعظمنا يتذكر كيف كانت الأم في أجيال سابقة، أمية أو تلقت تعليماً بسيطاً، وهي فرحة لأن ابنها يمسك بأحد الكتب، وذلك بخلاف تلك الأم خريجة الجامعة التي لا تشجع أبناءها على القراءة، أو تسأل أحدهم عن الموضوعات التي تختارها لطفلها، وفارق كبير بين النموذجين، يدعو إلى التساؤل عن التعليم نفسه وهل شجع تلك الأم الثانية على كراهية القراءة؟

  ولكن ما لم يلتفت إليه أحد، تلك الظاهرة الفريدة التي تتميز بها الثقافة العربية، فالقراءة لدينا وظيفية، بمعنى أن كل من يقرأ بانتظام، لا يلبث أن ينخرط في مهنة تتعلق بالكتابة، يعمل بالصحافة أو الإعلام أو يكتب أحد الأشكال الأدبية أو يمارس البحث بمفاصله المختلفة، أي ليس لدينا قراء خارج نخبة منتجي الثقافة بشكلها الأدبي والفكري تحديداً، هي نخبة تكتب لبعضها البعض ولجمهور على استعداد لينضم إليها لاحقاً. هنا يندر أن نعثر على أطباء أو مهندسين، تكنوقراط ، ممن يقرأون كثيراً ولا يكتبون، مما جعل الثقافة الأدبية والفكرية، ضعيفة الجمهور، أما الثقافة العلمية فمن دون جمهور تقريباً.

  لا يمكن لبلداننا العربية أن تنهض إلا بزيادة معدلات القراءة أضعافاً مضاعفة، ولن تكون أية قراءة فعّالة إلا إذا استطعنا تحويلها من قراءة نخبوية إلى قراءة للجميع، وأن يشعر الإنسان البسيط أن القراءة تفيده في واقعه الملموس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"