عادي
أخته رفضت نشر أشعاره بعد وفاته

رامبو في رحلة الموت من مارسيليا إلى عدن

23:21 مساء
قراءة 4 دقائق
2402

القاهرة: «الخليج»
«أية ريح رديئة تلك التي دخلت رئتيه في تلكم الأقاليم المهلكة، وأي ملاك ماكر قاده إلى تلكم الأماكن»، هذا مفتتح ما كتبته إيزابيل رامبو في كتاب بعنوان «أخي آرتور» وقد ترجمه إلى العربية محمد السنباطي، وصدرت الترجمة عن دار رؤية للنشر والتوزيع، مع تعقيب واف من المترجم، والملاحظ أن الكتاب صغير الحجم، يتجاهل حوادث كثيرة في حياة رامبو، وكل ما يخص الأشعار، وكأنها لم تسمع بها، وكأنما لم يصل على سمعها يوماً أن شقيقها كان شاعراً مبتكراً، وصديقاً لشاعر شهير يدعى فيرلين.

- يرجو فيرلين إيزابيل بعد موت شقيقها أن تسمح له بنشر كتبه الرائعة فترفض بإصرار، ولا تود أن يذكّرها شيء ولو من بعيد بذلك الزمن الذي تشرّد فيه أخوها ما بين الشعر والنزق، لا الإشراقات ولا فصل في الجحيم ولا غير ذلك مما سيشيد لشقيقها قلعته الشامخة في عالم الخلود، لا حرف من ذلك يستهويها ويجتذبها، فتتحدث عنه في كتابها الصغير هذا.

رغبة

كيف نلومها وهو ذاته قد هجر الشعر إلى غير رجعة؟ لعلها تنفذ رغبته في الابتعاد عن ذلك «الشيء الكريه»، كما وصفه في أواخر أيامه، حتى زوجة فيرلين بعد أن ترملت وطلب منها الإفراج عن رسائل رامبو إلى فيرلين قالت: أحرقتها، وكان رامبو طوال عام قبل رحيله يكابد في جسده وروحه، كان يعاني كل المحن والمضايقات، ولم ينل تعويضاً في عودته سوى خيبة الأمل، كان المرض قد أحاط به كزواحف سامة، وجعل يلتف حوله شيئاً فشيئاً ويقوده نحو الفاجعة النهائية.

وفي خطاب أرسله رامبو إلى أخته من المستشفى الذي احتجز فيه بمارسيليا في 15 يوليو/ تموز 1891 يقول: «تمرّ عليّ الليالي والأيام أفكر في وسائل التنقل، إن هذا لنكال حقيقي، لكم أصبو أن أفعل هذا الشيء وذاك، أذهب هنا وهناك، أحيا، أرحل، لا أرى بجواري سوى هذين العكازين اللعينين فبدونهما لا يمكنني التقدم خطوة، لا يمكنني أن أعيش»، ويخبر أخته بأنه متخوف من البقاء في المستشفى، فقد يصاب بوباء، ويسمح له الأطباء بالخروج، سيعود إلى أهله بساق خشبية، وبأحلامه المنهارة.

وكان الشاعر جاك بريفير يقول: «لقد خلق رامبو ليستمر طفلاً خلال الحياة، طفلاً بقلبه الطاهر والشرير، ببراءته وطغيانه»، وكانت سوزان برنار تقول: «المراهق الذي أراد أن يخلق عالماً جديداً بفضل سحر الكلمة الشعرية قد بلغ الآن طور الرجال، كل البشر تقريباً شعراء عندما يكونون أطفالاً، لكن قليلين هم الذين تعيش فيهم المقدرة العجيبة على إعادة خلق الواقع بعد سن العاشرة، عند رامبو أيضاً الينبوع نضب معينه ذات يوم».

سجين

كان رامبو يحس بنفسه سجيناً إذا ما مرّ عليه وقت وهو في مكان واحد بعينه، لذا نراه يعبر بلجيكا إلى هولندا، وهناك تراوده فكرة العبور إلى الشرق لجني المال، وكان ذات يوم يأمل في الوصول إلى الحرية عن طريق الشعر، فإذا به يأملها عن طريق الغنى والثروة، وتحت اسم مستعار يعبر الحدود إلى جنوة، ويكتب إلى أمه أنه يعيش حياته ويكسب قوت يومه بشرف، لكنه فعلياً كان يقطع المسافات الطويلة على قدميه في جو شديد البرودة.

وفي رسالة كتبها إلى أمه قال: «وصلت هذا الصباح إلى جنوة واستلمت رسائلكم، السفر إلى مصر يدفع ثمنه بالذهب»، ويصل إلى الإسكندرية في ظروف مواتية لكنه لا يمكث فيها طويلاً، ذلك أن تغيراً ما قد طرأ فجعله يعود إلى فرنسا، في صيف 1879 ولا تكاد تمر أشهر حتى يعبر قناة السويس إلى البحر الأحمر، فيصل إلى ميناء جدة ومصوع والحديدة، ومنها جنوباً، ليدخل في خليج عدن.

يصف رامبو عدن بأنها صخرة صلدة، لا عشبة فيها ولا قطرة ماء تصلح للشرب، اللهم إلا ماء البحر بعد تقطيره، أما حرارتها فهي مفرطة، وهناك يعمل مشرفاً على جودة البن الذي يتم تصديره إلى فرنسا، وكان من أفضل موظفي الشركة، لإخلاصه في عمله ومعرفته باللغة العربية التي يتخاطب بها مع العاملين، ولم يكد يمر شهران حتى سنحت له الفرصة لينتقل إلى «هرر» كوكيل لفرع الشركة، وكان يجوب الصحارى تحت الشمس الحارقة، ويعكف على شراء البن والعطور، وكانت هرر خاضعة آنذاك للإدارة المصرية.

ندم ونصيحة

جاء اليوم الذي يكسب فيه رامبو مالاً وفيراً، وكان قد هجر الشعر نهائياً، ويرسل إلى أسرته طالباً كتباً معينة وكاميرا وآلات دقيقة، ويطلب من دار نشر ترجمة فرنسية لمعاني القرآن، وفي رسالة إلى أخته يعلن عن ندمه أنه لم يتزوج وينجب أطفالاً، وينصحها بالزواج، ثم يصل إلى القاهرة ثانية، ويودع فيها حزاماً من الذهب مثقاله ثمانية كيلو جرامات، ويعود إلى عدن ثم هرر، حيث تتدهور صحته ويركبه المرض.. ساقه تعلن الحرب عليه، كيف ينام مع كل هذا الألم، يركبه الخوف من مصير مجهول، تراوده أحياناً فكرة الانتحار، ويتحتم عليه الآن أن يعود إلى فرنسا، ليموت غريباً في مستشفى فقير بمارسيليا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"