أين نحن الآن ؟

00:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

في الأغلب يتردّد السؤال بقوّة عن موقع المفكّرين العرب في هذا الزمن من الكوارث التي سبقت وعايشت ما يُسمى «الربيع العربي»، وتابعت مساراتها العربية المتلاحقة. لن أبرر، ولن أوافق سلفاً على ما كتبه المفكّر المغربي عبد الله العروي من أن العرب ليسوا أفعالاً؛ بل ردود أفعال. لا يصنعون الحدث أو الفعل، لكنهم يأتون بعده بكونهم أصحاب ردود أفعال.

 أقول إنّهم يقعون في قرونٍ من العزلة والإهمال والإحباط وضعف التأثير في ميادين التغيير إلى درجة التيه خلف وعلى دروب السلطات والأنظمة الكثيرة الوعرة الحافلة بالسقطات والتنافر. تعاظم هذا كلّه خلال وفي أعقاب «الربيع العربي» المرعب الذي كان بارعاً في خلخلة جذور تاريخنا المعاصر وكأنّه يقذف بنا نحو الخلف.

 تبرز ملامح فشل الفكر أوّلاً، بالعودة إلى نخل النظريات والأفكار والأيديولوجيات والأسئلة العربية المتجدّدة التي تخمّرت في جغرافيا عربية شاسعة غنيّة بتاريخها الحضاري العريق، ننتظر كلّنا عودتها ولم شملها وهدوئها. أبدأ مستيقظاً في العراق وكان منبع الحضارات الأولى، وأجده محاصراً بموقعه، وأفطر في سوريا المُخضّبة بدمائها ودمارها وشعبها المبعثر، لكنها مصلوبة في دهاليز مجلس الأمن الدولي، وأطير نحو تونس بصعوبة ثم بين المغرب والجزائر؛ حيث العُقد التي لم تمنع الفكر الناهض هناك من عصر فكر فرنسا ومخالطتها وتعريبها. لن أقصد الصومال وليبيا المقسمتين يكفيني موطني لبنان المقسم ممرّات ضيّقة مقلقة، أنزل نحو الخليج الذي جاء العالم كلّه إليه أمس، وبات شعاره «العالم في دبي»، وأراه كروم حصرم في بعض العيون العربية والإقليمية والإسلامية.

 يصعب على المفكر معاينة ركام الفكر القومي العربي واستحالة تجديده باكراً وفقاً للنسخ القديمة. ترك ركام «الربيع العربي» أمامنا الهويات المتشظية والمحروقة، وفكك الشمل المفكك، وانتظرنا قمّة للتباسط البسيط في جامعة الدول العربية أواخر مارس/ آذار سنداً لقرارٍ عربي عام في قمّة القاهرة عام 2000. لا أبرّر للمفكرين؛ بل إنّ هول التدخلات والاعتداءات الإقليمية على العرب فجّة، وتترك كلّ يومٍ تشظيات وانقسامات بما يخلق تحولات في عدد الدول العربية. لا يمكننا نسيان أو محو تداعيات التعصّب الديني والمذهبي المقيت، وإيقاظ الأكثريات والاندفاع في مشاريع بعثرة الأقليّات والتحكّم بمستقبلهم وخياراتهم.

 ألا نعاين كوارث نبش جذور الخلافات الدينية ونقعها بالدماء مجدداً؟ أننسى تحقيرنا مطالبين بتخفيف الأدرينالين الحافل بالأحقاد في دماء العامّة من أتباع دين بعينه بدلاً من إيقاظ التاريخ الدموي في معظم البلاد العربيّة وبلاد العالم، وتجديد الصراعات المطمورة ليغذّيها العالم عبر تحدّيات خفيّة ومعلنة تظهر في اجتهادات على علاقة بأصول الحكم؛ حيث تسقط حدود التدخلات بما يعبث بروح الدين وفضائله؟ ما الخلاصة المنتظرة من دحر الأنظمة ومضايقتها وبسط الأحلام القديمة سوى مقارعة العالم والمستحيلات لأنّ العصور لا تبدل ثيابها ولا تسير نحو الوراء؟

 نعم.. تتقاطع الدروب المتشعّبة مجدّداً في تحوّلات التغيير والطموحات الإنسانية المشروعة، وتمحو معالم تعبيدها الكثير من الدماء والخراب والعشب البرّي والشوك الفكري والأيديولوجي عبر أسئلة كثيرة تتزاحم مجدّداً في ما يمكن تسميته بتجدّد الدين أو التديّن الجديد العابر وتعميم الجهالة وبعث الماضي السحيق في التفكير والسلوك والرؤى. لكن، يفترض التغيير بملامحه الجديدة حدوث زلازل كبرى وخلافات وكوارث تتجدّد بين معتنقي الديانات التوحيدية وخصوصاً  لدى بعض المسلمين الذين ينقسمون في عقل العالم إلى الإسلاميين المتعصّبين المعرّفين تكراراً في الغرب بال«Zélotes» مقابل المعتدلين المعروفين بال«Les Hérodiens» وقد يطلق عليهم معاً اسم «إسلامستان».

 لن تسكن الصراعات، ممّا يجعل المفكر متردداً في البحث الواسع عن قراءات متجدّدة تطمح إلى محو الفروق الفكرية الجوهرية نهائياً بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب إلى درجة الوعي النهائي بأفول ملامح العظمة الدولية التقليديّة وحدودها بعدما دُفن العالم الثالث نهائياً، وسقط معه الفكر التوفيقي والمنظومات التي تتوخّى عدم الانحياز والنأي بالدول والمجتمعات عمّا يحصل من متغيّرات في الدنيا المحكومة بالتكنولوجيا والمعلومات وسقوط مفهوم السلام تاريخياً من الأذهان لا الموسوعات والقواميس والأبحاث.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"