في ويلات الحرب

00:02 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.يوسف الحسن

الحروب شرّ من صنع الإنسان، تولد في عقول البشر، وتفتك بالمشاعر والأخلاق والقوانين، وبحق الإنسان في الحياة والاختلاف والتطور، وتلتهم منظومات القيم الإنسانية، وتكشف عن أسوأ ما لدى البشر من غرائز فاسدة وشريرة.

عرف التاريخ منذ نشأته عصوراً اتسمت بالعنف والقتل والحروب لأسباب متنوعة، كما عرفت البشرية تحولات كبرى، دعت إلى نبذ الحرب والعنف، وبخاصة إثر ظهور تيارات روحية ومذاهب فلسفية، بدءاً من أوائل القرن التاسع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، في الحوض الحضاري للبحر الأبيض المتوسط، وبلاد اليونان والهند والصين، كاليهودية والبوذية والكونفوشيوسية وفلسفات أخرى متنوعة، لتشكل بدايات التحول الروحي في التاريخ البشري، وصولاً إلى النصرانية والإسلام. وهو تحول حث على الرأفة والتسامح في التعامل، وبلور قيماً إنسانية مشتركة، ساهمت في إبطال مناخات مفعمة بالعداوة للآخر، وبنزعات السيطرة وإهدار كرامة الإنسان، والهوس في الاستتباع والهيمنة، وحثَّت هذه التحولات على التعاون، وإشاعة روح المسالمة والعدل، ونبذ التباغض والصراع المدمر.

تأكل الحروب روح الإنسان، وتغذي ضروب الكراهية الجماعية، وتزرع بذوراً تسمم العلاقات بين الناس، أعراقاً وثقافات ومعتقدات، وكما يقول الروائي جون شتاينبك: «إن كل الحروب، هي ظاهرة من ظواهر فشل الإنسان، كحيوان مفكر».

إن ثقافة الحرب، هي ثقافة «الموت المشترك»، وتتعطش دوماً للدماء، ولا تحمي الأبرياء ولا البيئة، «وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ وتقلع الشجر..» وتستنزف بسعار شره، وبلا روية، موارد الأرض، وتهيئ لثقافة جيل متوحش يسعى للثأر، ولحرب تلد حروباً أخرى متتالية، وتعيد إحياء النزعة التدميرية للذات البشرية.

ألهمت الحروب مبدعين في الشعر والرواية والفنون والفكر الإنساني، وقالوا فيها:«إن الحروب بشعة.. فاتركوها»، ورصدت كتابات عالمية كثيرة، أوجاع الحروب وويلاتها، وعبَّرت عن نبذها للظلم، ومقاومتها للقبح.

وتقاسم شعراء أقدمون الحروب مع الفرسان، إما بذكر الأمجاد فيها، أو برثاء القتلى ووصف طعم الموت ومرارة الدمار والتشريد والهلع.

وقد حفظت، وأنا على مقاعد الدراسة الثانوية، أبياتاً من شعر زهير بن أبي سلمى عن الحرب:

وما الحربُ إلاّ ما عَلمتم وذُقتُمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

وتضرَ إذا ضرَّيتُموها فتضرمِ

فتعركّم عركَ الرحى بثقالها

وتلفح كِشافاً ثم تحمل فَتُتئمِ

فتنتج لكم غِلمان أشأمَ كُلَّهُمُ

كأحمرِ عادٍ ثم تُرضع فَتَفطمِ

كما تحدثت أساطير إغريقية عديدة عن ويلات الحروب في الأزمنة الغابرة، وسجلت «الإلياذة والأوديسة» ملحمة حرب طروادة وإسبرطة، وكيف انتهت تلك الحرب بسبب خدعة «الحصان الخشبي» المعروفة، وسادت وقتها «القوة العضلية الجسدية» قبل أن تسود «قوة الأفكار».

حروب عبثية عرفتها البشرية في القرون الماضية، وأحدثها حربان عالميتان، ضحاياها عشرات الملايين من البشر، أكلت روح الإنسان، وتركت خراباً ودماراً وفضاعات نفسية وتشوهات جسدية، وتركت الإنسان كترس في آلة عمياء، زادها الحقد والهيمنة، ولحمتها جماجم البشر.

وجُسِّدت بشاعة الحروب، بكل أشكالها وأحجامها، في لوحات فنية عالمية شهيرة، لفنانين كبار من أمثال سلفادور دالي، وبابلو بيكاسو، وإدوارد مانيه وغيرهم، وأعلنت هجاءها لهذه الحروب، عبر مساحات الألم والحزن والبؤس، الذي ينتشر في تكوينات وخطوط وألوان تلك اللوحات الفنية، وخاصة لوحة «جُرنيكا» لبيكاسو، والتي كانت عبارة عن صرخة احتجاج بالغة القوة والتأثير، وقد منحها اسم المدينة الإسبانية نفسها التي عانت أهوال الحرب الأهلية الإسبانية، في النصف الثاني من ثلاثينات القرن العشرين، حينما قامت طائرة حربية ألمانية بقصف المدينة في إبريل عام 1937، بهدف دب الذعر والخوف لقوات المقاومة.

لوحة معبرة ومليئة بمشاعر العنف والمعاناة والحزن وبأحاسيس المأساة والدمار والغضب في آن.

* قال الفيلسوف والمؤرخ البريطاني برتراند رسل ذات يوم، وكان ناشطاً بارزاً ومناهضاً للحرب، وداعية سلام: «إن مشكلة العالم، هي أن الأغبياء والمتشددين والتافهين، واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائماً، أما الحكماء فلديهم شكوك».. وهكذا تشتعل الحروب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"