مسرحية بوتشا

00:07 صباحا
قراءة 3 دقائق

على الرغم من الخسائر التي تكبّدها الجيش الروسي في أوكرانيا، وهي خسائر لا بد أن صانع القرار الروسي لم يفاجأ بها لأسباب كثيرة، فإن الرئيس الروسي وهو سياسي محنك، يدرك ما توفره له أجهزة الاستخبارات الروسية من معلومات بأن حلف شمال الأطلسي زود أوكرانيا على مدى سنوات بالكثير من العتاد العسكري المتطور، وقام بتدريب القوات الأوكرانية، وهذا يوضح الأسباب التي دفعت روسيا إلى حشد هذا الكم الهائل من قواتها لتنفيذ ما أطلقت عليه موسكو «العملية الخاصة لتحرير الدونباس» والتي فاق عديدها المئة وخمسين ألف عسكري روسي. أي أن روسيا تدرك منذ اللحظة الأولى أنها ستدخل في مواجهة، أو على الأقل، حرباً بالوكالة مع حلف شمال الأطلسي، وهو ما نلمسه من سير العمليات العسكرية على الأرض، واعترافات «البنتاغون» بأن الغرب قدّم لكييف المعلومات الكافية التي تمكنها من استهداف القوات الروسية، فضلاً عن تدفق كل أنواع السلاح الغربي المتطور.
 ونظراً لحالة الاستعصاء التي وصلت إليها الأزمة الأوكرانية، والتباين الكبير جداً في المواقف، بدا واضحاً أن موسكو لا تستطيع التنازل عن الأهداف المعلنة من عمليتها العسكرية، لأن هذا التنازل يعني قبولها بهزيمة عسكرية، من شأنها أن تنعكس بخطورة ليس على مستقبل الرئيس الروسي فحسب، وإنما على مستقبل روسيا بالكامل، فرغم بعض الانسحابات العسكرية التكتيكية وإعادة التموضع الروسي، إلا أن من يتابع الحدث الأوكراني يدرك أن من الاستحالة قبول روسيا بأقل من نزع أسلحة أوكرانيا، وجعلها دولة محايدة.
 هذا الواقع، وحالة الاستعصاء الناتجة عنه، دفعا الغرب إلى استعمال وسائل جديدة في حربها، وهي فبركة مسرحية أسماها «جرائم الحرب»، والدعوة الصريحة إلى محاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما هو الحال بالنسبة إلى كل من يقف في مواجهة الهيمنة الأمريكية.
 ومن يتابع مجريات ما جرى في بوتشا يستطيع أن يتلمس خيوط هذه المسرحية الخبيثة، فما إن أعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن وجود جرائم حرب في بوتشا حتى سارع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى وصف بوتين ب«مجرم حرب»، في الوقت الذي راحت فيه الماكينة الإعلامية الغربية تعزف على السمفونية نفسها، وتطالب بمحاكمة الرئيس الروسي، كما أن بريطانيا التي تترأس مجلس الأمن الدولي رفضت دعوة روسية لعقد جلسة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الاتهامات الأوكرانية.
 صحيح أنه لا يوجد عاقل يمتلك أقل قدر من الإنسانية في هذا العالم، يمكن أن يتقبل جرائم الحرب، ولا سيما تلك التي ترتكب ضد المدنيين خلال النزاعات المسلحة أوالحروب، إلا أننا لم نسمع يوماً أن جرائم الحرب تلصق بهذا الطرف، أو ذاك، حتى قبل إجراء تحقيقات دولية معمقة، للوقوف على حقيقة ما يجري، وفي هذا السياق أمر كبير المحققين الروس بإجراء تحقيق رسمي في ما أسماه «استفزازات» أوكرانيا، بعد أن اتهمت كييف الجيش الروسي بقتل مدنيين في بوتشا.
 وقالت لجنة التحقيقات الروسية في بيان، إن ألكسندر باستريكين رئيس اللجنة أمر بفتح تحقيق بعد أن نشرت أوكرانيا «معلومات كاذبة عمداً» عن القوات المسلحة الروسية.
 زد على ذلك أن الاتهامات الأوكرانية جاءت بعد خمسة أيام من خروج القوات الروسية من بوتشا، وهي مدة زمنية كافية لفبركة أفلام ومسرحيات غير صحيحة.
هذا الكلام لا يمثل دفاعاً عن طرف من الأطراف، وإنما هو تذكير بأن وجود تحقيق دولي شفاف أمر لابد منه قبل إطلاق التهم لاستغلالها فيما بعد، كما جرى في العراق عندما حاولت واشنطن تبرير غزوها بذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل.
 أخيراً، لابد من القول إن ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا أمر مرفوض أخلاقياً، أياً كان الطرف المتهم به، لكن مثل هذه الاتهامات ستغدو عملاً أشبه بالعمل العسكري إذا لم تقدم الأدلة الدامغة عليه، واستغلال هذه المسرحيات لزيادة الضغط على روسيا اقتصادياً لن يحل الأزمة، بل سيفاقمها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"