تونس بين «الجماعة» و «الاختيار»

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. كمال بالهادي

عندما تحدث الرئيس التونسين قيس سعيّد، عن وجود فئة منقلبة تفكّر بمنطق الجماعة وليس بمنطق المجتمع والدولة، فذلك يعني أن هذه «الجماعة»، ومن يقودها، لا يمكن أن تكون جزءاً من حلول المستقبل، بل إنّها أصبحت عبئاً على الحاضر، وعلى المستقبل أيضاً.
 ويدرك التونسيون، باستثناء أنصار «الجماعة» أن شخصية راشد الغنوشي، هي الشخصية السياسية الأكثر كرهاً، والأكثر انعداماً للثقة، في كل استطلاعات الرأي التي تنجزها مراكز سبر الآراء، المحلية والدولية.
 ورغم عدم وجود تلك الحظوة الشعبية التي تجعل منه زعيماً حقيقاً، وطنياً ودولياً، إلاّ أنّ اسم الرجل في تاريخ تونس من سبعينات القرن الماضي إلى اليوم، كأنه قدر تونس المحتوم. فرؤساء كثر ذهبوا ورحلوا واسم الرجل مازال يجثم على صدور التونسيين، ويرتبط بكل أزماتها، وانحدارها على كل المستويات، الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية، وحتى الثقافية.
 لقد ارتبط وجود هذا الرجل بأزمة تونس السياسية الخانقة في منتصف ثمانينات القرن الماضي، عندما كان يجهّز صحبة «ذراعه» العسكرية التي اخترق بها الجيش والأمن للانقلاب على الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1987، باعتراف قيادات تنظيم النهضة، غير أن الرئيس الراحل أيضاً زين العابدين بن علي، كان استبق مخطط «الجماعة» وأنقذ من «أفغنة» مبكرة للمجتمع التونسي في ذلك الوقت.
 وبعد أحداث 2011، عمل الغنوشي على اختراق كل أجهزة الدولة، وسيطر على مفاصلها بكل الوسائل التي لا تمت للإسلام بشيء. وما زال حلم الشيخ الثمانيني أن يصل إلى كرسي قرطاج ولو على جثث التونسيين، وتقسيم البلد، وجرّه إلى حرب أهلية كثيراً ما كان يهدد بها من خلال قولته الشهيرة «إما الحوار أو الاقتتال». إلاّ أن صبر الرئيس سعيّد، وحنكته، والتزامه بالقانون، جعلته يتريّث في حسم المعركة مع «جماعة الإخوان» وروافدها، وأساساً مع زعيمها، لأن تونس المكبّلة بهم تسير في طريق الهاوية إن استمرت المعركة معهم وقتاً أطول. حتى أتت لحظة الحسم فوجدت تونس نفسها في نقطة الفصل التي كان لا بدّ منها منذ عقود، فإما «الجماعة»، وإما «الاختيار». وهما عنوانا عملين دراميّين مصريين عُرضا في السنوات الأخيرة ويوثقان تجربة مصر في اقتلاع تجربة «الإخوان» المريرة.
 إنّ تونس أكبر من الغنوشي، ومن «جماعة الإخوان» التي يطلق التونسيون على مقرها «المعبد الأزرق»، والمستقبل لا يرتبط في كل حال بوجود هذه «الجماعة» في مراكز القرار، أو في رسم السياسات، لأنها لا تملك من ذلك أي شيء يمكن أن يفيد البلد، فنجاحها الوحيد تمثل في تدمير كل المكاسب التي جناها التونسيون طوال عقود. وتونس تحتاج الآن أن ترمي وراءها تجربة «الجماعة» مع حفظ حقوق الإنسان، وتطبيق القانون على الجميع، وتحتاج إلى تنويع الشراكات الاستثمارية الكبرى، وعدم الاقتصار على الشركاء التقليديين، وعلى رأسهم الشريك الأوروبي. فالبلد يكتنز من الإمكانات والفرص ما يجعله قادراً على تحدي كل المخاطر والمهددات. ويعلم من يمسكون اليوم بمقاليد الحكم أن هناك حروباً طاحنة لجذب تونس (التي تصنفها وكالات التصنيف كبلد محفوف بالمخاطر)، إلى هذا المحور، أو ذاك، وهم يعلمون أنهم في قلب اختبار العصا والجزرة، من أجل حسم الموقف من الأزمات الدولية. فلو كانت دولة مفلسة، كما تريد مؤسسات الضغط أن تبرزها، فهل كانت تونس ستخضع لهذا الاختبار القاسي؟ وهل كانت القوى الكبرى ستتنافس عليها بهذه الشدّة؟ يعرف المتصارعون أنّ البحر المتوسط هو ساحة اللعبة الجديدة بعد اكتشافات الطاقة في ضفافه الشرقية والجنوبية، والجميع يعرف أن هذه المنطقة ستستعيد دورها الحيوي كقلب نابض للتجارة الدولية.
  تونس على أبواب تحوّل تاريخي عظيم، ولذلك عليها ألاّ تبقى رهينة هذا الصراع مع «جماعة الإخوان»، ومع زعيمها الغنوشي. فالأجيال الجديدة تريد حياة أخرى، وآفاقاً أرحب، ضمن أفق كوني وإنساني يتجاوز طبعاً فكر عصبية القبيلة. ولذلك لا بد من «الاختيار»، اختيار تونس الجديدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"