عادي

عفو وصفح يقابلان الإساءات والتهديدات (2-2)

22:09 مساء
قراءة 4 دقائق
1

لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً عظيماً مثل رسولنا الكريم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يكن صاحب رسالة عظيمة وحسب، وإنما كانت سيرته ومسيرته التي امتدت نحو ثلاثة وستين عاماً، أنموذجاً فريداً لرسول عظيم، ونبيٍّ كريم، وقائد مُلهَم، وإنسان بلغ من الصدق والأمانة والرأفة والرحمة والتسامح مع الآخر مبلغاً لم يصل إليه أحد من العالمين، ولِمَ لا وقد قال الله في شأنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4 5]

جاء في سبب نزول سورة «الكافرون» أن كفار قريش عرضوا على النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى، ويقبلوا ما جاء به، بشرط أن يشاركهم في عبادة آلهتهم الباطلة بعض الزمان، فنزلت هذه السورة تقطع كل مفاوضات لا تفضي إلى تحقيق التوحيد الكامل لله رب العالمين. فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن قريشاً وعدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوّجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكفّ عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنْظُرَ ما يأْتي من عند ربي. فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ» السورة، وأنزل الله: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ» إلى قوله: «فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِين» (الزمر: 64-66).

وعن سعيد بن ميناء مولى البَختري قال: لقي الوليد بن المُغيرة والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأميَّة بن خلف، رسولَ الله، فقالوا: يا محمد، هلمّ فلنعبد ما تعبد، وتعبدْ ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شَرِكناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديْك كنت قد شَرِكتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ».

لم تأتِ تهديدات كفار قريش لرسول الله وعمه أبي طالب، بنتيجة، ولم يتوقف محمد، صلى الله عليه وسلم، عن ممارسة شعائر دينه، وقراءة قرآنه، والدعوة إلى الإيمان بالله ربّاً وبمحمد نبيّاً ورسولاً، الأمر الذي احتار فيه هؤلاء المشركون، فأخذوا في تنفيذ خطة أخرى، لكنها هذه المرة ستكون عملية اغتياله وقتله. روى ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبوجهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد. فلما أصبح أبوجهل، أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينتظره، وغدا رسول الله كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم، ينتظرون ما أبوجهل فاعل، فلما سجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، احتمل أبوجهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً، منتقعاً لونه، مرعوباً، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ بي أن يأكلني.

لم تفلح محاولة أبوجهل لقتل رسول الله، فماذا هم فاعلون؟ جاء في كتاب «الرحيق المختوم» لصفي الرحمن المباركفوري: روى ابن إسحاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكروا رسول الله، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم. فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفتُ ذلك في وجه رسول الله. فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتُ ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً.

فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره، إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به. فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمَجْمَع ردائه، وقام أبوبكر دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه. قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً نالوا منه قط.

وروي أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوماً إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا أكفر ب «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» وبالذي «دَنا فَتَدَلَّى» ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه، إلا أن البزاق لم يقع عليه. وحينئذ دعا عليه النبي وقال: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك». وقد استجيب دعاؤه، صلى الله عليه وسلم؛ فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"