عادي

ليبيا.. ألغام أمريكية تعيق التسوية

21:57 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد فراج أبو النور *
تحركات وجهود محلية وعربية ودولية مكثفة شهدتها الساحة الليبية خلال الأسابيع الأخيرة سعياً لتحقيق تقدم نحو التسوية السياسية، لكنها لم تسفر عن تقدم ملموس، وحتى حكومة فتحي الباشاغا، التي حصلت على ثقة البرلمان في بداية شهر مارس/آذار، الماضي لم تستطع أن تتسلم مقارها في العاصمة طرابلس.

لا يزال عبد الحميد الدبيبة، متشبثاً برئاسة الحكومة وحشد الميليشيات الداعمة له التي تملأ شوارع وميادين طرابلس، ولا تزال البعثة الأممية في ليبيا تتعامل مع حكومة الدبيبة باعتبارها الحكومة الشرعية تحت ستار أن أكثر ما يهم مبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة ويليامز هو إجراء الانتخابات بأسرع ما يمكن، وليس المفاضلة بين الحكومتين.

والأهم من ذلك أن السفير والمبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، يتخذ نفس الموقف، ويردد نفس الكلمات «ما يهمني ليس المفاضلة بين الحكومتين؛ بل إجراء الانتخابات بأسرع ما يمكن»، ويسايره في ذلك سفراء الدول الغربية الكبرى.

نورلاند وتحركاته المكوكية

نورلاند، أجرى خلال الشهر الماضي عدة لقاءات مع الأطراف الليبية المختلفة بمن فيهم الباشاغا، لتشير التسريبات في نهايتها إلى أنه حاول إقناع رئيس الوزراء الشرعي بالتخلي عن مهمته، لصالح قيام أحد كبار القضاة بتشكيل حكومة جديدة. (قناة 218 الليبية 15/3) ثم توجه إلى القاهرة منتصف مارس/آذار في محاولة لإقناع المسؤولين المصريين بالضغط على الباشاغا وعقيلة صالح رئيس البرلمان للقبول بهذا الاقتراح، لكن مسعاه قد خاب.

تصريحات نورلاند، طوال الفترة الماضية تركز على أهمية الاستقرار في ليبيا والاستمرار في ضخ النفط والغاز الليبيين إلى الأسواق الأوروبية، وعدم المساس بالمؤسسات التي يعتبرها «الأكثر أهمية في البلاد» وهي «المؤسسة الوطنية للنفط» و«المصرفي المركزي» و«مؤسسة الاستثمارات الخارجية»، وهذا مفهوم تماماً في ظل الحرب المشتعلة في أوكرانيا، والعقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا والمحاولات الأمريكية الحثيثة للبحث عن بدائل لإمدادات النفط والغاز الروسي في أوروبا..

صحيح أن الإنتاج الليبي، محدود بالنسبة للمطلوب، لكن ليبيا لديها احتياطيات كبيرة من النفط والغاز، ويمكن زيادة الإنتاج بزيادة الاستثمار في إعادة تأهيل الحقول وتطويرها. وهذا هو أكثر ما يهم أمريكا من ليبيا في الوقت الراهن، وليس شخص رئيس الحكومة.

المبادرة المصرية

وبديهي أن الأمر يختلف بالنسبة لمصر، التي تهمها قضية الأمن في ليبيا بالدرجة الأولى؛ حيث إن كلاً من البلدين يمثل عمقاً استراتيجياً للآخر، وتبلغ حدودهما البرية المشتركة أكثر من (1200كم) كما تمثل سواحلهما امتداداً متصلاً، كما تعيش قبائل «أولاد علي» في المنطقة الحدودية الممتدة بين البلدين، وقد عانت مصر النشاط الإرهابي في الشرق الليبي في سنوات ما بعد الإطاحة بحكم القذافي حتى تم تطهير المنطقة على أيدي الجيش الوطني الليبي، ولذلك فإن من الطبيعي أن تنظر مصر بعين القلق لأي حكم يحتضن الوجود الإرهابي في ليبيا، أو في أي بلد مجاور.

وبناء على ذلك فإن الموقف المصري تجاه ليبيا ينطلق من دعم الشرعية والأمن والاستقرار واستقلال البلد الشقيق، وانطلاقاً من هذا الموقف تقدمت القاهرة بمبادرة ترتكز على ثلاثة أسس هي: نقل السلطة سلمياً، وإجراء الانتخابات وفقاً لخارطة الطريق البرلمانية، وضرورة خروج المرتزقة والقوات الأجنبية، واستقبلت القاهرة كلاً من رئيس البرلمان عقيلة صالح ورئيس الحكومة فتحي الباشاغا ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي الذي اجتمع به الرئيس السيسي مؤكداً دعم مصر لاستقرار ليبيا ومؤسساتها الشرعية واستقرارها.

ونلاحظ هنا أن مصر تعاملت بهدوء مع المقترحات الأمريكية التي قدمها «نورلاند» وامتنعت عن الاصطدام بها علناً، كما نلاحظ التزامن بين وجود الأطراف الليبية ووجود وزير خارجية قطر في القاهرة وأن عقيلة صالح سافر من القاهرة إلى قطر (للمرة الأولى)، وبدعوة رسمية، وقد تكون هذه كلها مجرد مصادفات، لكننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود علاقة قوية بين كل من قطر وتركيا الداعمة لطرابلس وصاحبة الوجود العسكري القوي فيها.

الاستراتيجية العشرية الأمريكية

ووسط هذا الزحام من المقترحات والمبادرات خرج وزير الخارجية الأمريكي «بلينكن» بتغريدة على «تويتر» طرح فيها ما أسماه «استراتيجية عشرية لمنع الصراعات وتعزيز الاستقرار» تنفذها أمريكا جنباً إلى جنب مع الدول الشريكة والمجتمع المدني «لبناء القدرة على الصمود»، في كل من ليبيا وهايتي وموزمبيق وبابوا غينيا الجديدة وساحل غرب إفريقيا.

ونلاحظ على الفور أن هذه الاستراتيجية المفروض تطبيقها خلال عشر سنوات يقترح بلينكن تطبيقها على بلدان تختلف مواقعها من أقصى شرق آسيا «بابوا غينيا» إلى إفريقيا وصولاً إلى الكاريبي «هايتي»، كما تختلف ظروفها السياسية والاقتصادية الحضارية أشد الاختلاف (فما الذي يجمع لبيبا مثلاً ببابوا غينيا الجديدة؟) ولا يربط بينها إلا كونها أجواء من الاستراتيجية الكونية الأمريكية، وبلاداً تريد الولايات المتحدة السيطرة عليها لأسباب مختلفة في إطار تلك الاستراتيجية الكونية، كما أن تطبيق هذه الاستراتيجية العشرية على ليبيا يعني إدخالها في «الثلاجة الأمريكية» لعشر سنوات وحيثما تتم «هندستها» بالطريقة المناسبة لواشنطن.. وإذا كان فتحي الباشاغا قد أعلن موافقته عليها لينال الرضاء الأمريكي فمن المشكوك فيه بشدة أن يقبلها الشعب الليبي.

الدبيبة والإخوان والميليشيات

والأمر المؤكد أن هذه الاستراتيجية العشرية الأمريكية تطيح بكل المبادرات والمقررات الدولية وخرائط الطريق المطروحة، وتترك مصير لبيبا في أيدي واشنطن وحدها ومن قد تختاره من الأطراف المحلية والإقليمية لمشاركتها، إذا قدر لها أن تعرض خطتها هذه. وواضح جداً أن من شأن هذا التوجه الأمريكي أن يمد في عمر حكومة الدبيبة، خاصة أن أمريكا غارقة في الأزمة الأوكرانية والمواجهة مع روسيا – اللهم إلا إذا أبدى ممثلو الشرق الليبي استعداداً تاماً للمشاركة في تنفيذ خطتها.. وهذا حديث آخر.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"