منطق «السوق»

00:28 صباحا
قراءة دقيقتين

د.يوسف الحسن

ثمة حاجة موضوعية ماسة لإعادة فتح نقاش عام حول قضية «التعليم من أجل السوق»، وهي قضية مرتبطة بحاضر المجتمع ومستقبله.
إن منطق السوق، إذا ما ساد، وتحكَّم في التعليم، سيقود في نهاية المطاف، إلى «تسليع» الإنسان، ويفقده قواه وإمكانياته الإبداعية والإنسانية الحقيقية، وسيكتشف المجتمع، بعد حين، أن جامعاته «نظيفة» من أقسام الفلسفة والزراعة والتربية والكيمياء والمعادن والأحياء والأدب والتاريخ والفكر.. إلخ.
وعلى سبيل المثال، تذكرنا حكاية عدم حاجة السوق إلى خريجي الفلسفة، أو ما شابهها من علوم وإنسانيات، بقصة اللص الإغريقي في الميثولوجيا الإغريقية والتي كانت جزءاً من المعتقدات في اليونان القديمة.
وتروي هذه الحكاية كيف كان اللص «يقطع أرجل ضحاياه، لكي يجعلها منسجمة مع طول فراشها».إن دعاة التعليم من أجل السوق لم يفعلوا غير ما كان يفعله هذا اللص الإغريقي فما دام السوق لا يحتاج إلى خريجي الفلسفة أو الزراعة أو الأدب المقارن، على سبيل الأمثلة، فإن الضرورة «السوقية» تقتضي إلغاء هذه التخصصات من الجامعات، أو تهميشها، ونزع الشغف أو التوجه نحو الطلب عليها، فالمهم هو «السوق» على اعتبار أنه هو الذي يشكل الهُوية والقيم والقواعد الاجتماعية وديمومة التنمية!! 
في ظل السوق، يحكم التنافس كل شيء.. ولهذا الأمر محاذيره، وللسوق قدرة على التفلت من عقال القواعد المؤسِّسِة للنهوض الوطني، ولا يرف له جفن أمام متطلبات الحداثة الحقيقية والسيادة والهُوية.
إن منطق السوق، حينما يتسيد الخطط التعليمية، يفرز فراغات هائلة في أنسجة المجتمع ورسالته الإنسانية والحضارية، كما يخلق رموزه الخاصة وثقافته وأساطيره، ويترك تأثيراته الكبرى على أنماط العيش، وعلى كل عناصر الثقافة المجتمعية، من قيم وإبداع وأنساق فنون، وغيرها.
إن من يعمل على تعظيم أطروحة السوق ونفخها لا يحسب كل هذه التأثيرات، وكان من الأجدر مراقبة تجارب دول غربية في إطار «السوق» والتي لم تشطب علومها ولا آدابها لصالح هوسها بالسوق الليبرالية الضيقة منها والمفتوحة على كل الآفاق.
لدينا عشرات الآلاف من الخريجين في نظم المعلومات وإدارة الأعمال، وما شابهها لكن الأوطان بحاجة أيضاً إلى الفيزيائي والكيميائي والزراعي وعالم النفس والمنطق والفلسفة والمؤرخ والجيولوجي وعلماء في المعادن والبترول والطاقة المتجددة والغاز والفن والموسيقي..إلخ.
إن أي خلل في التوازن في التعليم له عواقب وخيمة. وإذا غاب هذا التوازن بين ما هو علمي وما هو إنساني، يختل السياق الحضاري للمجتمع، ويضعف الوعي العام.
وتشير التجارب التاريخية إلى أن الدول لا تُبنى على منطق السوق ومتطلباته. والتحليق الصحي والناجح لا يتم إلا بجناحين والمستقبل مرهون بنواصي البحث والتطوير، وأجنحة الإنسانيات والعلوم وبتوازن تام.
صحيح أن هاجس الوظيفة هو الذي يشغل بال خريجي الجامعات، لكن «التوجيه» و«الابتعاث» وبلورة اهتمامات الطلبة باتجاه متطلبات جوهر التنمية الإنسانية، وتنمية عقول تنتج علماء في حقول الإنسانيات هو ضرورة وطنية ماسة وأمن وطني بامتياز.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"