«دون كيشوت».. مغرداً!

00:01 صباحا
قراءة 3 دقائق

الثقافة «التويترية»، ظاهرة كبرى، من نتاج ثورة التكنولوجية في وسائل التواصل الاجتماعي، لها ما لها، وعليها ما عليها.

في فضائلها تنتشر الكثير من «المعارك» المتلاحقة والشديدة، ومن خلال متابعة الحسابات والمواقع الإلكترونية الأخرى، والردود عليها.

لا يُغرّد المرء إلى «ذاته»، لكنه «يُغرّد» إلى «غيره الآخر»، فَيَصل خطابه القصير والسريع، (وربما يتطور في المستقبل إلى مقال «تويتري») إلى آخرين، يعرف بعضهم، وإلى أكثرية لا يعرفها، وبالتالي، نحن هنا، أمام «منصات» لحريات تعبير متعددة الأطراف والمشارب والمواقع والثقافات.

إنها «منصات» متقابلة إن لم تكن في أغلبيتها مستقطبة أو «متصارعة» سياسياً أو ثقافياً، توّلد موجات لا تنتهي من التوتر والضغوط، وشَغَف «التّعقب» وحوار الأفكار وتبادل الصور، فضلاً عن السخرية والسباب أو الإشادة والتبجيل.. الخ.

في «الثقافة التويترية» الكثير من «جاذبية» الإدمان، فضلاً عن مشاعر القلق والتشتت الفكري، وقد وصف خبراء أمريكيون كثر، تغريدات الرئيس الأمريكي السابق ترامب بأنها «نموذج للشخص الترفيهي والمسلي الغريب»، وخاصة حينما عمل على إدارة سياسة بلاده الخارجية، من خلال «تويتر»، إلا أنه هاجم «تويتر» بعد فشله في الانتخابات الرئاسية، واتهمه «بخنق حرية التعبير عمداً».

يغرق، أحياناً، أصحاب التغريدات السياسية، في حقول خصبة للتعاطف غير الواقعي، مع حدث أو معلومة ملتبسة أو سلبية، ويميلون إلى المبالغة والتطرف، وزيادة حدة التناقض مع الآخر المغاير، وعلى سبيل المثال، فإن رئيساً غير عربي، كان يفاخر بوصول عدد متابعيه على موقعه في «تويتر» إلى أكثر من 14 مليون متابع، إلا أنه وصف «تويتر» بالغباء، بسبب حملة الانتقادات التي يشنها ضده معارضوه، عبر منصات التواصل الاجتماعي.

تشكلت فجوة واسعة، ومُشّوشة للرؤية، بين منصات التواصل الاجتماعي، وواقع الحياة في عالمنا المعاصر، وخلقت شكلاً وهمياً من الإعجاب بالذات، والمكانة الاجتماعية والسياسية والاستقطاب الأيديولوجي الزائف، وصارت هذه المواقع والمنصات مصدراً لوسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، ومن غير المؤكد، صحة هذه المعلومات أو أهدافها الخفية، أو حتى تأثيرها على خصوصيات الناس وحرياتهم، وبعضها يحمل خطاباً للكراهية والعنصرية والصراع العنيف، فضلاً عن تزييف الوعي.

ومن أسف، فإن أغلبية البالغين المتابعين لمواقع التواصل الاجتماعي يحصلون على الأخبار من هذه الشبكات الاجتماعية، والكثير منها يأتي مباشرة من مستخدم فردي أو من بعض متابعيه، وليس من مصادر إخبارية تقليدية، تعتمد الاستقصاء والتحقق وتتحمل أعباء قانونية وأخلاقية لتأكيد صدقيتها.

أتساءل دوماً: هل الكلمات المعدودة، التي يقدمها نجوم التواصل الإعلامي والاجتماعي، هي نتيجة تأمّل وصبر وتفكير، أم مجرد لحظة انفعال أو هَوَس «دون كيشوت» وهو يحارب طواحين الهواء، بحثاً عن أوهام الفروسية؟

عبارات قصيرة، لا تُشع، ولا تجعلك تفتح عينيك دهشة، ولا تعطيك لذة التفكر فيها، نكتُبها وكأننا نركض في سباق «الماراثون»، تثير ضجيجاً في معظم الأحيان، ولا ترتقي إلى مستوى النقد أو الرؤية الحصيفة العميقة في بحثها وصدقيتها.

هل هو شَغَف مفرط بالإعلان عن (الأنا)، وعلى طريقة الراقصة المصرية الشهيرة التي أعلنت ذات يوم أنها بصدد تقديم برنامج تلفزيوني ديني، للوصول إلى جمهور أوسع؟!!

أخشى أن تسهم هذه الثقافة في تزييف الواقع، وتجريف المعرفة، إلى درجة يصبح فيها الكذب أو الرداءة أو اللامسؤولية قادرة على اختراق الوعي، طالما ظل هذا الوعي غير مسلح بأدوات التحليل والتفكير العلمي والنقدي.

أشفق على جيل الشباب الذي لم يتدرب على مهارات وعلوم تُنمّي حسه النقدي في تعامله مع مصادر المعلومات وتمييز الغث من السمين، وقراءة النصوص الإعلامية في الوسائط التقليدية والحديثة، وكذلك برامج التلفزة ذات الطابع الإخباري أو الإعلاني، ومعرفة أهدافها المستترة، واستنطاق المسكوت عنه فيها، بمعنى تفكيك النص، وفك شيفرة الصورة والمعلومة المنقولة عبر وسائط التواصل.

إنها مهمة وطنية، وأخلاقية في آن، أن نُطوّر مهارات هذا الجيل، ونرفع كفاءته في تشخيص وفهم وتقويم الرسائل اليومية المتدفقة والمنهمرة على عقولنا كالمطر، والتي تنتجها وسائل التواصل الاجتماعي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"