العولمة..في حالة اكتئاب

00:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. يوسف الحسن

حذّر فلاسفة ومفكرون، طوال العقود الثلاثة الماضية، من فرط الانغماس في «العولمة». رغم أن الحياة من خلال التقدم العلمي والتقني صارت في زمن العولمة، أكثر سهولة، أو هكذا تبدو، وأكثر انفتاحاً وتشابكاً.
وقال بعضنا إن تحذيرات هؤلاء هي «فلسفة زائدة» ولا تشجعنا على الاصطفاف مع الجانب المنتصر في التاريخ.
وقيل إن من لا يلتحق بالعولمة، سيكون على لائحة طعامها، وصدّقنا أن لا مكان في العولمة للأبواب الموصدة التي تخشى التفاعل مع الآخر، ولا للإقامة مع الخوف والقلق.
حسناً، إنها ظاهرة تركت انعكاساتها على الوجود الإنساني، وساعدت على بناء شبكة علاقات بين سكان المعمورة، وبين الإنسان وذاته، والطبيعة والكون والأشياء، لكنها في جانب منها كانت «شبه متوحشة».
أدت هذه الظاهرة إلى عولمة السوق والتجارة والإعلام والخدمات والتقانة والعمل...الخ.
واخترقت الهويات، وتداخل الكوني بالمحلي، وفرضت مبادئ، وأنساق، لها تأثيراتها على قضايا الحريات وتدفق السلع ورؤوس الأموال والمعلومات والأفكار والأيدي العاملة. وكان لها إيجابياتها مثلما لها سلبياتها، على قطاعات ومجتمعات وخصوصيات.
لم تصل إلى مرحلة الكهولة والشيخوخة، وإنما ما زالت تتوسع، وأحياناً يبدو حضورها كاسحاً، ناعماً مرة، وشديد التأثير وقاسياً في هيمنته وسطوته مرات.
صمدت أمام حروب ونزاعات، وترهيب، ومنافسات باردة وساخنة، ازداد الأغنياء ثراء، وازداد الفقراء فقراً، واتسعت الفجوة بين الغني والفقير، وظلت العولمة، والبعض يسميها «أمركة» هي الحصان المتقدم في سباق طويل، فيه خيول صفر وبألوان أخرى، تعي وخز الاستهانة بالشراكة والتعاضد الإنساني وقلة احترام مخاوف ومدركات الآخرين.
.....
.....
فجأة انفجرت الأزمة الأوكرانية، ووضعت العولمة في مأزق، وأعادت الشكوك في مفاهيمها ومبادئها وآلياتها وقوانينها.
اختلطت السياسة بالاقتصاد، وكشفت هذه الحرب زيف دعوات الحرية وحيادية الرياضة والأدب وأسواق المال وسرية الحسابات المالية والإعلام والتجارة.
هشمت «الحرب في أوكرانيا وعليها» قواعد اقتصادية راسخة، من قوانين واتفاقيات منظمة التجارة العالمية، ومبادئ وآليات نظم المدفوعات والعملات. لا شيء يقف على الحياد، لا الدين ولا الرياضة ولا الغذاء ولا إمدادات الطاقة أو الدواء أو حتى أسواق الموضة والقهوة، وقراءة كتب وروايات لتوليستوي وديستوفسكي، أو سماع سيمفونية أو موسيقى كلاسيكية مثل «كسارة البندق» أو «بحيرة البجع».. الخ.
نسي العالم أن الثقافة هي إرث إنساني وقيم جامعة للبشرية، وأن اصطفاف أجهزة الإعلام وشركات التواصل الرقمي والإلكتروني يُبطل ويعيق حرية التعبير والوصول إلى المعرفة والمعلومات، وينسف المصداقية والحيادية والموضوعية.
إذاً، العولمة في مأزق، عادت القيود، وتجلّت تداعيات هذه الأزمة في الانقلاب على حريات الإعلام والرأي والاقتصاد والاستثمارات والتجارة، والثقافة، وإمدادات مواد أساسية لحياة الناس، وانتهاك الملكيات الفكرية.
هل سيتعمق هذا المأزق، أم سيتم تجاوزه، إلى مفاهيم «الأقلمة» أو حتى «الاكتفاء الاستراتيجي الذاتي» والعودة إلى الحمائية والحروب التجارية، وتصاعد النزعات القومية المناهضة لفكرة العولمة؟ 
في الأزمة الأوكرانية، تحولت العولمة إلى «سلاح حربي» لتطويع السياسات والخصوم.
أسئلة حائزة كثيرة: هل سينتهي عصر التجارة الحرة، أم أنها «وعكة» عابرة،  أم أن العالم بحاجة إلى إعادة تصميم «عولمة» مختلفة؟
 لننتظر ونراقب تطورات وتداعيات هذه الحرب، ونتأمل «العولمة» ومآلاتها، وأعراضها وهي الآن في «حالة اكتئاب» شديد..
نسأل الله تعالى أن لا يُشفيها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"