عادي
الطعام مأكولاً ومقروءاً

المطعم.. جميعنا نُدل في خدمة العولمة

22:47 مساء
قراءة 4 دقائق
لوحة «الغداء» لمونيه

محمد إسماعيل زاهر

ماذا تفعل عندما تشعر بالجوع وأنت تسير في الشارع؟ لابد أنك ستدخل أي مطعم يقابلك في الطريق.. تجلس إلى إحدى الطاولات وتطلب قائمة الطعام، ثم تختار منها ما تود أن تأكله. هذا الفعل التلقائي الذي نمارسه على مدار الساعة والمتمثل في زيارة المطعم، أو طلب الطعام ونحن في المنزل، هو فعل حديث للغاية لم يمارسه الإنسان في الماضي، فالمطاعم بالشكل الذي نعرفه الآن لم تنتشر إلا في فرنسا خلال القرن التاسع عشر.

هناك من يعود بتاريخ نشأة المطاعم إلى الصين في القرن الثاني عشر، أو إلى اليابان في القرن الذي يليه، ولكن تلك المطاعم كانت أشبه بالوجهات السياحية الملحقة بالفنادق والمخصصة للمسافرين، أو للطبقة الأرستقراطية، أما المطاعم التي ازدهرت نتيجة لانتعاش الطبقات الوسطى والشعبية فبدأت تنمو في أعقاب الثورة الفرنسية 1789، حيث يقال إن الكثير من الطهاة في قصور الأثرياء فقدوا وظائفهم نتيجة للثورة فأسسوا المطاعم حتى يواصلوا العمل في مهنتهم، وهناك من يذهب إلى أن جموع الثوار التي ظلت في الشوارع لأوقات طويلة بدأت بترسيخ ثقافة تناول الطعام خارج المنزل، والبعض يذهب إلى أن المطاعم ما هي إلا تطوير لفكرة توزيع المؤسسات الخيرية للطعام على الفقراء في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، أما أول خدمة «ديليفري»، فأطلقها مطعم هندي في لندن عام 1900.

هوية

كان الطعام على مدار التاريخ من أكثر مفردات الثقافة تعبيراً عن الهوية، وارتبط بطقوس وآداب اختلفت من مكان إلى آخر، والأهم من ذلك تلك العلاقة الوثيقة بين الطعام وخصوصية الجماعة، ومدى انفتاحها على الآخرين، وتعاملها مع الفضاء العام «الشارع»، ورؤيتها ل«الغريب»، ففي فترات ليست بعيدة كان تناول الطعام في الشارع أمام الغرباء يعتبر من السلوكات المرفوضة أو المستهجنة في بعض الثقافات، وفي ثقافات أخرى كانت هناك حساسية تجاه الذهاب إلى المطاعم، ورصد علماء الأنثربولوجيا علاقة قوية ضاربة في القدم بين تناول الطعام المطهو في المنزل، وتأسيس علاقات عضوية ومتينة بين أفراد الأسرة الواحدة، فضلاً عن تأثير الطبخ في توزيع الأدوار تاريخياً، بين الرجل والمرأة.

ويرصد كتاب «في المطعم» للأمريكي كريستوف ربات، ترجمة محمد أبوزيد، وإصدار مشروع كلمة في أبوظبي، العلاقة بين ثقافة الذهاب إلى المطعم والحداثة، وفي الكتاب نتجول بين مطاعم شيكاغو ولندن وباريس خلال القرنين الأخيرين، ويربط المؤلف بين ازدهار المطعم وظاهرة تضخم المدن والتي تضاعفت أحجامها نتيجة الهجرة من الريف ومن البلدان الأفقر، ويقف بنا أحياناً أمام مطاعم ارتادها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، ومطاعم تناول الروائي البريطاني جورج أورويل وجباته فيها، ويغوص في روايات إميل زولا والتي تعتبر مرجعاً في فن الأكل الباريسي خلال القرن التاسع عشر، ويتحدث عن مفردات في صميم تاريخ المطعم، فيتناول بالتفصيل فن ترتيب الأكواب والأطباق و الملاعق وقوائم الطعام، أو يحلل مهنة الطباخ، مايسترو المطعم، حيث كان يصل بعض الطهاة أحيانا إلى مكانة لا تقل أهمية عن صاحب المطعم نفسه، أما معظمهم فيموتون دون سن الأربعين، والسبب يعود إلى الإجهاد البدني المفرط، إضافة إلى أن معظم مطابخ المطاعم كانت من دون نوافذ، وبالكاد تتم تهويتها، فكانوا يعانون دائماً من نقص الأوكسجين، ومرض السل، وداء الدوالي.

ويتطرق الكتاب أيضاً إلى المطاعم الكوزموبوليتانية بفخامتها وارستقراطيتها التي تجد فيها «الأكلات» العالمية، ويعرج إلى المطاعم الشعبية ببؤسها المستمد من الأحياء الفقيرة التي سكنها المشردون والمغامرون والمهاجرون والباحثون عن فرصة عمل بسيطة، ويعود إلى تقرير إحدى الصحف الإنجليزية في عام 1920 عن تجمع هؤلاء في أحد المطاعم المكتظة، والذي وصفهم ب«كتل بشرية متبلدة الحس كما الذباب».

تغيرات دراماتيكية

مع العولمة، شهدت ثقافة الطعام تغيرات دراماتيكية، ربما يختزلها البعض بسهولة في «ثقافة الهمبرجر والكوكاكولا»، ولكن المسألة أعمق من ذلك، حيث انتشرت سلاسل المطاعم العالمية في مختلف بلدان العالم، وعبرت في الوقت نفسه عن سمات ثقافية معينة في نوعية الطعام وطرائق وأساليب تناوله، وتوارت بعض «الأكلات» الشعبية إلى الخلفية، ويذهب ربات إلى أن عدد العاملين في المطاعم الهندية في بريطانيا خلال تسعينات القرن العشرين أكثر ممن عملوا في صناعة الحديد والصلب الإنجليزية.

وبسخرية شديدة من العولمة، يرى ربات أنها حولتنا جميعاً إلى نُدٌل في مطعم كبير لا نهاية له، فوظيفة الندل اعتمدت في الأساس على ابتسامته وترحيبه بالزبون عندما يدخل المطعم، والقيام على راحته، وهي سلوكات تمارسها قطاعات كبيرة من البشر اليوم في مجالات عمل أخرى، سلوكيتات نجحت العولمة في ترسيخها، بحيث باتت الثقافة نفسها لا تلتفت كثيراً إلى معاناة المهمشين.

مداخن وعمال

جاء القرن التاسع عشر بمداخن المصانع السوداء وتضخم الطبقة العاملة، فظهرت الحاجة إلى أماكن تلبي الأقبال على تناول الطعام بين أوقات العمل الطويلة، أما في القرن العشرين فشهدت الطبقات الوسطى طفرة في أحجامها وتغيرات عميقة في عاداتها وتقاليدها، ما أدى تلقائياً إلى نشأة نظرة جديدة إلى ثقافة وأمكنة تناول الطعام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"