عالم ما بعد الأزمة

00:11 صباحا
قراءة 5 دقائق

تقول النظرية إن الحرب نتيجة حتمية للسباق على القمة إن انطلق بين قوة صاعدة وقوة عظمى مقيمة. غير مهم من أشعل الحرب وشكل الحرب وأنواع الأسلحة المستخدمة. المهم هو أن القوة العظمى المقيمة كانت قد رتبت أمور مستقبلها على أساس غياب قوة عظمى أخرى مشاركة في القمة أو صاعدة في الأجل المنظور. ما حدث في حالة عالمنا بعيداً عن مدى انطباق النظرية عليه، هو أن الدولة العظمى المقيمة وهي الولايات المتحدة أعلنت عند مطلع القرن الراهن على لسان رئيسها جورج بوش قيام نظام عالمي جديد حين أكدت له أجهزته الاستخباراتية والأكاديمية أن القوة العظمى الأخرى الشريكة في القمة منذ نهاية الحرب العالمية وهي الاتحاد السوفييتي قد انفرطت نتيجة هزيمتها في الحرب الباردة على يد غريمتها وشريكتها في القمة، الولايات المتحدة الأمريكية، ولن تقوم لها قائمة في الأجل المنظور، بشهادة خبراء الاقتصاد والمالية، وبعضهم أمريكيون، من الذين باشروا بأنفسهم في عهد الرئيس يلتسين الإشراف على عمليات تفكيك الاقتصاد السوفييتي بعد انفراط الكيان السياسي للإمبراطورية السوفييتية.
 كان أمثال هؤلاء الخبراء قد أكدوا للرئيس الأمريكي ولسابقيه من رؤساء أمريكا أن الصين لن تكون قوة عظمى في الأجل القريب والمتوسط، استناداً إلى المواقف المعلنة من جانب رؤساء الصين أنفسهم، ومن واقع متابعة السياسات المتدرجة والهادئة التي اتبعها هؤلاء الرؤساء ابتداء من الرئيس دينج تشياو بينج مهندس الإصلاح الاقتصادي وصانع مراتب الصعود وأهدافه. 
 بدا لنا من خارج الولايات المتحدة أن الرئيس دونالد ترامب قرر إطلاق السباق مع الصين وليس مع روسيا، وهو القرار الذي لم يكن متوقعاً في دوائر الاقتصاد والمال. ولا شك أن فيروس «كورونا» لعب الدور الأساسي في إثارة حملة كراهية عنصرية، أظن أنها كانت متعمدة في جانب منها للحاجة إليها لتمهيد تربة خصبة يجري فيها غرس بذور إحباط مساعي الصين لصعود أقل تدرجاً وبقفزات أكبر.
 لم يكن الرئيس ترامب منفرداً أو فريداً في تفضيله الإسراع بإطلاق حمى السباق مع طرف صاعد. جاء إلى الحكم بشعار «أمريكا أولاً» واستعادة أمريكا العظيمة. جاء بعده الرئيس جو بايدن من الحزب الديمقراطي بشعار «أمريكا تعود». كلاهما عبّرا في حملتيهما عن حقيقة أن أمريكا لم تعد عظيمة كما كانت، وعن حقيقة أن المنافسين من الناشئين والعائدين الصاعدين، سواء كانت الصين أو روسيا أو أوروبا، صاروا يهددون بتقليص المسافة التي كانت تفصل بين الأول بامتياز وبينهم. ترامب تفادى أن تكون روسيا المنافس في السباق واختار الصين. أما بايدين فجاء وقد اختار روسيا بحكم تأثره بظروف نشأته السياسية في أحضان الحرب الباردة. 
 لم يعد ممكناً الاستمرار لمدة أطول في حالة الميوعة السائدة داخل القمة. وفي الوقت نفسه لم يكن مسموحاً أن تنشب حرب داخل مجتمع القمة، بالنظر إلى ما كدسته القوى العظمى من أسلحة نووية وصواريخ بسرعات فائقة، وقوة تدمير هائلة للذات والغير والعالم كله. الحرب في الحالة الراهنة ضرورة. المهم أن تتفادى استخدام أسلحة الدمار النووي.
 ليست سهلة قراءة كل ما تحقق من نتائج للسباق الجاري على القمة تحت اسم الحرب الأوكرانية وحواشيها. الحرب تجري أحداثها في أوكرانيا والدمار كبير وملموس ولانزال بعيدين عن نهاية لحرب مضى على نشوبها خمسون يوماً. الواقع يثير أسئلة وعناوين قضايا عديدة، منها على سبيل المثال:
* أولاً: دول صغيرة كبولندا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا ودول في شمال آسيا لن تفكر في حاجتها إلى الانضمام لحلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي لضمان استقلالها عن النفوذ الروسي. أثبتت الحرب في أوكرانيا أنها ستكون الخاسرة في نهاية الأمر. واضح تماماً أن الدول الغربية لن تتدخل أكثر إلا لحد معين، واضح أيضاً أن قدرة الاتحاد الروسي على تحمل العقوبات والحصار كبيرة.
* ثانياً: دروس التاريخ مستمرة، وقليلون هم الذي يتعظون. حصار ألمانيا والانتقام منها والعقوبات التي فرضت عليها وشيطنتها، كلها لم تمنعها عن النهوض واستئناف الصعود رغم التدمير الكبير الذي حل بها. قدرة القطب المنهزم على كسر القيود واستعادة ما فقد قدرة غير محدودة. ها هي روسيا تواجه وحدها الغرب بأسره ولم تنهزم.
* ثالثاً: نهم أوروبا للانقسام والاختلاف والعنف لم يهدأ أو يجد ما يشبعه. سمعت من صديق قريب إلى مراكز النفوذ في قيادة الاتحاد الأوروبي أن قادة أوروبا يتهامسون بالألم المشوب بالغضب من إغفال أمريكا، يبدو لبعضهم متعمداً، لمصالحهم ومشاريعهم نحو إنشاء قوة دفاع أوروبية منفصلة عن الناتو. بعض القادة الألمان لا يخفون غضبهم لما انتهى إليه قرار الانفتاح على الشرق، أي على روسيا، وكان حافزاً مرفقاً بإقامة ألمانيا الموحدة. يتهامسون الآن بالقول إن أمريكا تحاول بكل قوتها إحباط هذه المبادرة والعودة بأوروبا إلى أجواء حائط برلين. 
* رابعاً: أظن أن الصين متيقظة لأدق تفاصيل ما يحدث مع روسيا وما أقدمت عليه والأخطاء التي ارتكبتها والشباك التي اصطادتها والكمائن التي نصبت لها. قرأنا مؤخراً، من بين حملة مخيفة تشنها دوائر في البنتاجون والكونجرس، عن الدعوات للإسراع بفرض حصار في آسيا على الصين قبل أن تستوعب الدروس المستقاة من أزمة أوكرانيا وحملات شيطنة روسيا والعقوبات المفروضة عليها. شخصياً لا أستبعد أن يقدم الرئيس بايدين على الاستجابة لهذه الضغوط لتحسين صورته وصورة الديمقراطيين داخل أوساط اليمين المتشدد في أمريكا. تكاد القوى الضاغطة تقول، ها نحن أطلقنا إشارة بدء السباق نحو الانفراد بالقمة، دعونا نستمر إلى النهاية فنضم الصين «بالقوة» إلى سباق سوف يستمر لمدة لن تكون قصيرة. أعود فأكرر إن عزل الصين عن بيئتها الآسيوية فكرة، في ظني، خائبة.
* خامساً: أتصور، وقد أكون مبالغاً، أن تتردى العلاقات الدولية إلى هاوية. إذ إنه عندما تتزعم أمريكا بصفتها القطب القائد في الحملة ضد صعود روسيا الرأي القائل بضرورة إخراج روسيا، القطب الآخر في السباق، من مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، فإننا في الحقيقة نكون أمام احتمال نشوب فوضى شاملة في العلاقات الدولية. 
 أعتقد أن أمريكا بقيادة الرئيس بايدن لا تتصرف بحكمة، وأنها في الغالب متأثرة بضغوط من الداخل مستفيدة من استمرار الحرب. تؤكد أيضاً قناعتي أن روسيا بقيادة فلاديمير بوتين سوف تستخدم درجة أعلى من العنف في حرب نتيجتها النهائية تحدد موقع روسيا ومكانتها في نظام جديد.
 وفي غياب توقع عمل جاد من جانب الأمم المتحدة وفي وجود حلف الناتو المتهم بجرائم حرب في عديد مراحله، ومع استمرار الخلافات داخل معسكر الغرب، يصعب علينا تصور مرحلة في المستقبل المنظور يخيم فيها على العالم سلام ورخاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"