الحرية المسؤولة.. سر المهنة

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. يوسف الحسن

ما أكثر أحزان ذلك الرجل، وما أصلبه وهو يتعالى على جراحه بصبر وبكبرياء أليف، فقد زوجته وولديه، وظل قوياً عالي الهمة، وحينما اغتيل ولده البكر جبران في ديسمبر 2005، خاطب زملاءه من الصحفيين، أثناء تأبينه، وواقفاً أمام جثمان ابنه، وداعياً إلى الصفح، ودفن الحقد والثأر.
لم تهزمه المآسي الأسرية التي واجهها بثبات وإيمان، وكان كثير الاحتجاج على الظلم، وعلى تقييد الحرية، وقيل عنه إنه كان «رجل الهويات المتصالحة»، وبشَّر باللاَّطائفية في بلده لبنان، وكتب «التقرير الصحفي المهني»، مثلما كتب «التقرير الدبلوماسي» أثناء عمله كدبلوماسي في واشنطن والأمم المتحدة، ورأى في التنوع والتعددية مصدر ثراء ثقافي.
التقيته، لأول مرة، في مهرجان تأبيني أقامته نقابة الصحفيين اللبنانيين في بيروت، في صيف 2002، لتأبين رفيق العمر المغفور له تريم عمران، تبادلنا التعازي، وكلمات قليلة حول هموم الصحفي، وعن «غيوم القلق»، التي تكثفت في سماء الوطن العربي إثر أحداث سبتمبر 2001 وتداعياتها.
في لقائنا الثاني، الذي جرى في أبوظبي، أمضينا وقتاً غير قليل، في ليلة من ليالي ربيع عام 2004 في دارتنا، حيث دعوته وأصدقاء آخرين إلى مائدة عشاء، حضرها هشام شرابي، وسيد ياسين، وعدد من الدبلوماسيين والمفكرين، ممن جمعتهم ندوة فكرية، انعقدت يومها في أبوظبي، بتنظيم من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (اليكسو). سمعت ليلتها من هشام شرابي، رغم ميله دائماً إلى الصمت، حديثاً عن «الشيخوخة»، وأذكر أنه قال: «إن الشيخوخة لا تخيفني، وما يخيفني هو نهاية الصيف، وأقشعر عندما أرى نفسي وحيداً منغلقاً على نفسي، ليس في حياتي إلاَّ صمتي والطبيب والدواء». (توقفت حياته رحمه الله، في العام التالي).
في هذا اللقاء، اقتربت أكثر من غسان تويني، حدثنا عن قلقه تجاه الأوضاع اللبنانية، وعن صحافة الأحزاب التي صارت مجرد أدوات سياسية تهيئ للفتنة والاحتراب.
لمست في الرجل صفاءً داخلياً وحيوية فياضة ورؤى تمزج ما بين الواقع السياسي والفكر والتأمل، وعرفت منه أنه انتخب نائباً في مجلس النواب اللبناني في الخمسينات، وأنه ورث مهنة الصحافة عن والده، مؤسس صحيفتي «الأحرار»، و«النهار»، واشتغل في هذه المهنة نحو نصف قرن.
قبل شهور، أهداني صديق كتاباً يحمل عنواناً مثيراً، هو «سر المهنة، وأسرار أخرى» يسجل سيرة غسان تويني السياسية والصحفية والدبلوماسية، ويسرد وقائع ذاتية مرتبطة بالمهنة وبالأحداث، ويقدم استشهادات ووقائع سياسية، ومحاكمات ومرافعات، وأجزاء غير قليلة من تاريخ لبنان المعاصر، وصحافته وأزماته وحروبه الداخلية، فضلاً عن أسرار صحفية، وقصص اختفاء واغتيال لصحفيين، وحكايات ساسة، وانطباعات صاحب السيرة عن رؤساء وزعماء وعرب.
يروي غسان تويني كيف يختفي الخطاب الإعلامي من الصحيفة حينما يكون خطابها تبشيرياً، ويقول إن «الصحافة اللبنانية اختصرت الصحافة العربية خلال ربع قرن، تعلمت الصحافة اللبنانية من المصريين، ما كان بدورهم قد تعلموه من الصحفيين اللبنانيين الذين هاجروا إلى مصر في زمن العثمانيين، حفاظاً على حرية الصحافة».
تحدث أيضاً، عن «صحافة المتاريس» في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينات، وفي زمن القتل على الهوية، وكيف كانت عملية تحرير الصحيفة تتم في «زواريب» الطوابق السفلى.
كما روى قصص الموزعين والمحررين والإداريين العمال في تلك الأزمنة، وذكر أسماء من اختطف أو اغتيل أو عُذّب، أسماء أشخاص من كل الطوائف وأسباب الخطف متعددة، وكثير منها معارض شديد لتلك الحرب المجنونة.
تحدث أيضاً عن لقاءاته مع صحفيين كبار من أمثال محمد حسنين هيكل، ومصطفى وعلي أمين، وسعيد فريحة، وعن تلميذه المحبب لنفسه ميشيل أبو جودة الذي اختطف وعذب ورحل في عام 1992.
ويقول أنسي الحاج الذي كتب مقدمة الكتاب، «إن غسان تويني وحش صحفي، وشخصية إغريقية بفكر أوروبي، وبرغماتية أمريكية، ولغة عربية لا يضيق بها».
راقب غسان تويني السياسة العربية ونقدها، في أزمنة الحرية، ومن حسن حظه أنه غادر الدنيا في صيف 2012، قبل أن يرى مشهد الخراب في لبنان في هذه الأيام.
في حفل تأبين لنقيب الصحفيين عفيف الطيبي الذي رافقه إلى المحاكمات مراراً، مدافعاً عن حرية الصحافة، قال غسان تويني: «نحن في مهنة، بعضنا يموت فيها مرَّة، وبعضنا يموت فيها مرتين، وبعضنا يموت فيها قبل أن يعيشها، وبعضنا الآخر لا يموت ولو مات».
إن سر المهنة هو الحرية المسؤولة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"