لا حصون ولا قلاع في بيروت

01:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

بيروت عاصمة عربية سمراء وغربية شقراء تظهر أبداً وكاّنها محطّ أنظار العالم، لكنها مؤقتة يختلط فيها الغرب بالشرق والإسلام بالمسيحية بما لا يمكن تصفيته أو رسم لوحاته التي لا تحصى تبديلاً وتنافراً وأقنعة. فشلت ويستحيل عليها ادّعاء خصوصياتٍ فارغة تجعلها الجزيرة المنعزلة عن هذا العالم الشاسع المحيط بها، وهي لا يحق لها، كما ينطق التاريخ القديم والحديث،لا بالتسويات ولا بالمساومات. 

 لطالما كانت موئلاً بل مطبخاً لأجيالٍ متعاقبة من الثوريين والتغييريين والحزبيين الرافضين لأنظمتهم وسياسات رؤسائهم بحثاً عن الحرية بلا ألفٍ ولام والديمقراطية التي أوكلتها إلى وسائل الإعلام والإعلاميين جسوراً مرّ عبرها الكثير الكثير من أجيال القناصل والسفراء الأجانب بزياراتهم وتحركاتهم وخطبهم التي تتجاوز الدبلوماسية.

 لم ولن يفيدها ممثلو العالم كلّه حتى ولو أقاموا في أرضها وتكلّموا لغتها وتزوّجوا فيها وسهروا في قصورها وقرّروا البقاء فيها حتّى بعد تقاعدهم. أميل إلى القول التاريخي، إنّ بيروت كانت وبقيت وستبقى عاصمة عصيّة مفتوحة على الدنيا وستبقى قلقة جميلة معشوقة ومهددة على الدوام بكونها صارت مستوردة ليست في الغرب ولا في الشرق ولا في شمالٍ أو جنوب، وهي اليوم لا تُطيق أن تبقى خطوط تماس دولية تُشكّل «عجقتها» وعاداتها وهوامها بالمستقبل.

 لماذا هذا الكلام التوصيفي ؟

1- لأنّها تختصر وطناً. وعلى الرغم من كلّ هذه المخاطر والمحاذير التي تقع فيها مع كلّ استحقاق وحركة أو تبدّلٍ وتغيير تبقى في عين العالم طفلة عربية تعشق النار، بل طفلة لعوبة وقوية بالسياسات والانتخابات والرئاسات والطائفيات البائدة والباقية في المواقد الباردة الجاهزة للتلاعب بالنيران والوقوع في الحفر بحثاً عمّن يُخلّص.

2- لأنه كلام لا يرتبط إطلاقاً بمناسباتٍ أو بأحداثٍ معيّنة، بل يتوخى القفز فوقها بعدما تعبت في شرحها الأقلام والألسنة التي لا ضوابط نهائية لها لاسيّما في عصرٍ غريبٍ تبدو فيه أرض البشرية واحدة وكأنّ لا حدود ولا جمارك ولا قوانين تضبطها.

3- لأنّه كلام يوقظنا جميعاً نحو تفحص الماضي وواجب التذكير بالتواريخ المرّة المدموغة بحزمةٍ من العائلات السياسية مالكي الوطن والإعلام والمؤسسات، لكنهم ينفصلون جذرياً عن شعوبهم المتنوعين والمتشابكين في النظر إلى المنطقة العربية أو إلى العرب والإسلام حتى في التفاصيل والمتناقضات والمصالح التي تكاد تعميهم عن جوهر الأحداث الضخمة التي عاشوها، لكنهم فشلوا كليّاً بربطها لفهم مغازيها ومعانيها ومخاطرها القديمة والحديثة منذ سقوط الشاه في ال1989 الى الحرب العراقية - الإيرانية الى اجتياح دولة الكويت وخروجه منها أمام عصا التحالف الأمريكي الأوّل، ثمّ وقف مسلسل الحروب الدموية في لبنان انطلاقاً من مدينة الطائف، ثمّ الانتظار الدولي فترة سنوات عشر( لماذا الانتظار؟) للوصول ربّما الى تفجير البرجين الأمريكيين لتُعبّد الأنقاض جادّات متفرعة نحو الحروب المفتوحة المبررة والمفهومة من احتلال أفغانستان ( المتروكة اليوم لمن؟) الى سقوط صدّام في حفرةٍ، ثمّ سقوط عراقه في المستنقعات الدموية منذ عشرين عاماً، الى خروج ليبيا آنذاك من الشرق العربي وتغطيسها في هموم القارة الإفريقية وبؤسها، وصولاً الى سقوط الرئيس رفيق الحريري صريعاً في قلب بيروت التي أعاد بناءها وبنى الجسور وعبّد الطرقات والحصون والقلاع (خاطبته يوماً رحمه الله سائلاً إن كان في ذهنه شيء جاذب من صورة محمّد علي، لكنه أجابني ضاحكاً: «لا...لا حصون ولا قلاع في بيروت إلاً لعتاة السياسة) وصولاً الى الخرائب في سوريا ولبنان وبينهما وغيرهما من البلدان والأنظمة التي تبعثرت في خطب وخطىً غير واضحة لشدّة غموضها وازدواجياتها في سيناريوهات رهيبة لامست الخيال وكادت تخطف الأبصار لنستغرق في الانقسامات بالتفاصيل، من دون الركون إلى الحقائق والخلود إلى التواضع والهدوء والتعقل في أزمنة المخططات الدولية الكبرى.

4- لأنني أرى لبنان مقيماً في «ربّما» و«قد» و«إن شاء الله»، تأكل شعوبه الكثيرة الحيرة والضياع في هذه الحمّى الانتخابية التي لا تعني شيئاً لمعظمهم وهم يرون بلدهم راكضاً فوق حدّ السيف، تتطلّع جارته دمشق صوب الجامعة العربية تغمزها من القاهرة، ويُقبل عليه أشقاؤه في لحظةٍ قد تشي بسلسلة من الحلقات المتواصلة والمحكمة الاتّصال والتي تدخل ربّما بالشرق الأوسط الجديد. 

 كانت العدّة لتحقيق هذا الشرق العربي تلك «الفوضى الخلاّقة أو البناءة بالتدمير» التي جانبت كل من يرفع سبابته ليقول لا، وبان الثمر الفج متجاوزاً المواسم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"