مقاربات بين حربين

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

تجري مقاربات في العالم العربي تتهم الغرب بممارسة الحد الأقصى من ازدواجية المعايير والتوغّل في العنصرية، إذا ما قورنت السياسات والمواقف في الحرب الأوكرانية بما هو متبع في قضايانا وحروبنا ومصائرنا.
بالنظر الإنساني والأخلاقي، فإنها مستحقة وجدارتها لا شك فيها بنصوص القانون الدولي، غير أنها  في الوقت نفسه  تكاد تقع في وهم القياسات الخاطئة. إنها حقائق القوة والاستراتيجيات والمصالح قبل وبعد كل شيء.
في مثل هذه الأيام قبل 19 عاماً سقطت بغداد، فُككت واستُبيحت مقدّراتها، وانتهكت حياة مئات الألوف من مواطنيها، واضطر مئات ألوف آخرين للنزوح عن ديارهم في أسوأ ظروف إنسانية دون أن تمدّ يد عون من الغرب تخفف الآلام وتضمّد الجراح، كما يجري الآن بأريحية لافتة مع النازحين الأوكرانيين.
الوضع مختلف تماماً والقياس مستحيل على أية قيم إنسانية أو قانونية. في الحالة الأوكرانية، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» أطراف مباشرة في الحرب، بتدفقات سلاح متقدم إلى ميادين القتال لاصطياد الدب الروسي في حرب استنزاف طويلة وحروب مدن يصعب حسمها دون كلفة باهظة، مع فرض عقوبات اقتصادية ومالية ورياضية وفنية لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر.
بمعنى آخر، فإن أوكرانيا رهينة لصراعات قوى كبرى يتحدد وفق نتائجها وتداعياتها، مستقبل النظام الدولي وموازين القوى المستجدة فيه، وليست مقصودة بذاتها.
وفي الحالة العراقية، الأطراف نفسها شاركت في الحرب تحت قيادة أمريكية مباشرة لتوظيف حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في إعادة ترتيب الإقليم وهندسته من جديد، بالتقسيم والتفكيك تحت لافتة «الشرق الأوسط الجديد».
عشية الحرب على العراق استخدم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، كل ما هو متاح من وسائل لتسويغها، وردد أكاذيب وادعاءات عن امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل.
ثبت بيقين أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل، وأن التقارير الاستخباراتية التي تردد فحواها في مجلس العموم البريطاني والكونغرس الأمريكي، كانت كاذبة واستخدمت لخداع الرأي العام.
وثبت بيقين أنه لم تكن هناك أدنى صلة لنظام صدام حسين بتنظيم «القاعدة»؛ بل إن التنظيم وجد طريقه لبلاد الرافدين بعد احتلالها.
في تلك الأيام ارتفعت أصوات عربية عديدة تحذر من أن بوابات الجحيم يوشك أن تُفتح، كان أول من أطلق ذلك التحذير أمين عام الجامعة العربية في ذلك الوقت عمرو موسى.
كان قرار الحرب قد اتخذ، ولم تكن هناك قوة ردع كافية لمنع الكارثة المحدقة. لم يخضع بلير، ولا الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، ولا أياً من الذين تورطوا في جرائم الحرب لأي محاكمة.
في بحور الدم العراقي سقطت الأقنعة وادعاءات الديمقراطية التي وعدوا بها. تصادمت المقاومة الشرسة لقوات الاحتلال مع أوهام شاعت قبل الحرب من أن الشعب العراقي سيقابل غزاته بأكاليل الغار.
بقوة الصور بدت الصدمة هائلة في الرأي العام العالمي عام 2004 عند تكشّف حجم الفظائع في سجن «أبو غريب»، التي تضمنت قتلاً تحت التعذيب واعتداء جنسياً، حتى إن جندياً أمريكياً صرخ: «لقد كرهت نفسي».
لعب الكاتب الصحفي الاستقصائي الأمريكي سيمور هيرش، دوراً رئيسياً في كشف قدر الفظائع والانتهاكات وتقويض ادعاءات الرئيس الأمريكي عن الديمقراطية التي يبنيها.
اعتداءات مماثلة جرت في معتقل «كوبر» قرب مطار بغداد الدولي لم يجر الالتفات إليها على أي وسيلة إعلامية، حيث كان يعتقل الرئيس العراقي صدام حسين مع مئة من كبار معاونيه.
في وثيقة خطية كتبها نائب الرئيس طه ياسين رمضان من داخل المعتقل، أرسلت إلى بيروت ومنها إلى القاهرة مؤتمناً عليها، نشرت نصها في صحيفة «العربي» مطلع أكتوبر 2005، دون أن يثير ذلك حفيظة أحد.
في الوثيقة الخطية (14 صفحة) إشارات لاعتداءات بدنية على الرئيس العراقي ونائبه فور مغادرة قاعة المحكمة، التي شهدت رفضاً منهما لتعريف هويتهما.
قيل إن صدام حسين ارتكب انتهاكات مماثلة، ربما أبشع، لتسويغ الاعتداء بالضرب والتعذيب على أركان حكمه.
أسقطت تلك الحجة التي ترددت وقتها على نطاق واسع، أي فروق إنسانية مدعاة، وأي شرعية منتحلة لقوات الاحتلال. عندما نقلوا إلى المحاكمة قيدت أياديهم وعصبت العيون، وسحبوا كقطعان غنم..
هكذا بالحرف كتب طه ياسين رمضان. كان التجاهل بالصمت نوعاً من التواطؤ على الحقيقة.
في الحالة الأوكرانية بدا الإعلام الغربي كلّه صوتاً واحداً ضد كل ما هو روسي، حتى أصبح لافتاً لمرة نادرة، أن يعترض صحفي ألماني على فضائية عربية، لا في صحافة بلاده، على «الخلط الفادح بين بوتين وبوشكين»، أو بين السياسة المتغيرة والثقافة الموروثة.
في صراع الاستراتيجيات والمصالح، انتهكت كل القيم والأعراف والقوانين الدولية في حرب العراق، ولم يجر الاحتكام إليها في أوكرانيا.
في المرة الأولى استغرق الأمر سنوات عديدة حتى تكشفت كل الحقائق والمآسي السياسية والاستراتيجية التي تبعت احتلال بغداد.
في المرة الثانية كانت الضحية الأولى هي الحقيقة نفسها، التي عندما تتكشف، فإن العالم سيكتشف قدر ما تعرض له من خديعة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"