ما أعظم ذكراه وما أعطرها

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

د.يوسف الحسن

كلما عبرت جسر «المقطع» على أطراف أبوظبي، يراودني إحساس عميق بأن المغفور له الشيخ زايد، مبثوثة أنفاسه في كثبان المكان، والبيوت والقرى الحضرية المتناثرة ومقاعد الدراسة في المدارس والجامعات، وحرَّاس الوطن، وأجيال عرفته وأحبته، وبرعمت على ساعديه، وتَبلورت لها شخصية وهوية ومستقبل.

وحينما أقترب من مثواه في مسجده الشامخ على مدخل جزيرة أبوظبي، يزداد الإحساس تأثراً وتأملاً، حتى يصل إلى قلب الذاكرة فأستحضره كلؤلؤة في محارتها، راضياً مرضياً، وأهمس، وكأنني أناجيه، إنه وفي مثواه في دار البقاء، مازال يتوغل محبة وتقديراً في ذاكرة الأجيال، ويزيد من حمولتهم للمسؤولية التي يتشرفون بحملها. 

حينما جاء الشيخ زايد، القائد والمؤسس، كان المجتمع في قيد استكمال عناصره التأسيسية، وحمل على كتفيه كل أشواق وطموحات المجتمع، للاتحاد والنهوض، ورأى أن الغد لن يكون مجرد نهار آخر، لأنه سيحمل مشروعاً وطنياً، ولأول مرة، في تاريخ هذه المنطقة بعد معاناة وتمزق واحتراب وفقر وجهل، على مدى أكثر من قرن ونصف.

نعم.. كان مشروعاً وطنياً بامتياز، ويقع في صلب جاذبية وطموحات وطن، يبحث عن ذاته وهويته وكينونته القومية، ويشكل مستقبلاً إنسانياً لشعبه، مجرداً من الشقاء والتبعية والانغلاق والتذرّر.

انحاز الشيخ زايد إلى المحرومين والفقراء في كل مكان، وإلى التجذّر في الأرض، وتصليب وتعزيز مناعة الأسرة وبناء الهُوية وتسخير الثروة لحلم تشييد وطن متحد جديد، وعصري وأصيل، وقال لجيل الشباب: «تعلموا واقرأوا، واعرفوا تاريخكم، ولا تغسلوا ذاكرتكم، واعملوا (واخْشَوْشنوا)، وأخلصوا لوطنكم، وأمتكم، وإنسانيتكم».

لم يُفوِّت فرصة  تاريخية وأخلاقية  إلا تحدث «وعمل» عن عون الشقيق والصديق والمحتاج، وعن العفو والصفح والتسامح بمعناه الفلسفي والقانوني والأخلاقي، وكانت ممارساته السياسية، لا تفترق عن خطابه وشعاراته، وكان يُسمي الأشياء بأسمائها، ورسّخ تقاليد وقيماً حوارية ونقاشاً عاماً، وامتلك مهارات الحكمة الفطرية ومعاني الخير العام، وشجاعة الحكيم، وقاد سفينة الدولة الجديدة، وسط أعاصير وحروب ومناورات في الإقليم غير مسبوقة، وحقق نجاحات ساطعة، ولم تكن له عداوات، وإنما صداقات وتحالفات مرنة، لم تعرف الاستقطاب، ولا التبعية، وإنما الاحترام والمصالح المتبادلة، والصدقية في القول والفعل.

نعم، بَرْعَمت وأزهرت وأثمرت على ساعديه مدن، وأيام مجيدة، وجيل، واقتصاد وصداقات وقدرات ناعمة، واحتشد في ظله ورعايته حوض الخليج وجزيرة العرب برؤية ثاقبة وتعاونية كانت تبشر باتحاد، وببلاغة قومية وإنسانية، فأحبه الناس، مثلما أحبهم.

كان صوته (ودوره) عالياً وفاعلاً وسبّاقاً ومحترماً وعقلانياً، كلما اشتبك ذوو القربى، أو نزف دم من خاصرة أحدهم، أو «تعثرت» قضية عربية، أو عُزل أو غرد خارج السرب أحدهم.

نتذكر أن الشيخ زايد هو الذي كان وراء عودة مصر للحضن العربي في وسط الثمانينات، وها هي سوريا تعود إلى الحضن العربي من البوابة الإماراتية.

أحبه العرب، كل العرب، وقدّره العالم حق قدره، وما من حاكم عربي في عصره نال رضا شعبه، وأدار العلاقات بين الناس بحكمة وشجاعة، مثلما ناله زايد، عليه رحمة الله.

..........

ما أعظم الخير الذي خلّفه زايد، وما أعطر ذكراه التي نستمد منها قوة لمتابعة مسيرته، ومواجهة المخاطر والتحديات، وبناء المستقبل.

حفظ الله الوطن، وحفظ قيادته وشعبه، وكل من حمل رسالته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"