من مذكرات دبلوماسيين

22:56 مساء
قراءة 4 دقائق

د. يوسف الحسن

في جميع عواصم العالم، تعيش جالية أجنبية، متعددة الجنسيات والثقافات والنظم السياسية والاجتماعية، وتتمتع برعاية وحصانة حكومية، يعيش أفرادها في هذه العواصم لفترة محدودة، ثم يغادرونها واحداً تلو الآخر، ويشدّون الرحال إلى بلد جديد، أو عودة إلى بلدانهم الأصلية.
قد يكون المكان مريحاً في عاصمة ما، وقد يكون شاقاً وعسيراً، وفي كل الأحوال، فإن المهمة الموكلة لأفراد هذه الجالية تتطلب صبراً وتعايشاً، ومهارات وذكاءً وشغفاً بالمعرفة والمعلومات، وبناء الأواصر ومعالجة الأزمات، ورعاية المصالح الوطنية، وكسب العقول والأفئدة والصداقات واكتساب الخبرات، وتمثيل بلدانهم وإعلاء شأن صورتها وسمعتها.
هي جالية مؤقتة، تسمى بعثات دبلوماسية وقنصلية ومكاتب ثقافية وتجارية وعسكرية.. الخ، وتوصف دوماً بأنها مغتربة عن أوطانها، يقضي أفرادها جزءاً من حياتهم متنقلين من بلد صديق إلى آخر شريك أو حليف أو خصم، أو في المنطقة الرمادية.
تحفل حياتهم بتجارب متنوعة، وبمصادفات عجيبة أو طريفة. يرقبون الأحداث وهي تتعاقب، يحللونها ويجتهدون في فهمها وتداعياتها الراهنة والمستقبلية.
وأذكر أن سفيراً يمثل دولة من دول أمريكا اللاتينية كان يقوم بتقديم أوراق اعتماده إلى رئيس جمهورية، وحيث يقف وزير الخارجية إلى يمين الرئيس، وإلى يساره رئيس المراسم، وبينما كان السفير يتلو خطابه أمام الرئيس، وما إن وصل إلى منتصف الخطاب، حتى شاهد رجالاً يقتحمون المكان، ويطلبون من الرئيس المغادرة، ليحل محله رئيس جديد، والذي بادر بالقول: «أيها السيد السفير، أكمل خطابك، فأنا الرئيس الجديد».
لكل فرد من أعضاء هذه الجالية المؤقتة حكاياته وذكرياته وتجاربه ومشاهداته، منهم من يملك القدرات الأدبية والمعرفية، لسرد هذه الذكريات، أو الممكن منها أو المباح، في كتاب أو كتب أدبية وأكاديمية، إلاّ أن أكثرهم حينما يغادر هذه المهنة، ينصرف إلى مجالات أخرى، أو إلى التقاعد والاكتفاء بالاسترخاء واسترجاع ذكرياته في مجالسه الخاصة، أو في جلسات سمر مع الأصدقاء.
ومن أول المراجع التي نهلت منها علوم الدبلوماسية وتاريخها، كتاب الدبلوماسي والمؤرخ البريطاني هارولد نيكولسن الذي عمل سفيراً لبريطانيا في كل من إسبانيا وتركيا بعيد الحرب العالمية الأولى، كما عمل في إيران وألمانيا حتى عام 1927، ونشر كتابه في «الدبلوماسية عبر العصور» في العام 1939، ولعله من أهم الكتب التي عالجت تاريخ الدبلوماسية عبر العصور وحتى الحرب العالمية الثانية.
ومن الطرائف التي ذكرها، عن حال الدبلوماسية في القرنين الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حكايات الاشتباك بين سفراء الدول الكبرى في ذلك الوقت حول «الأسبقية» في المراسم والاحتفالات قبل أن يتم تقنينها في اتفاقية فيينا عام 1815. ومن هذه الطرائف حكاية المبارزة بين سفيري روسيا وفرنسا، إثر خلاف في حفلة راقصة في مأدبة ملكية في البلاط البريطاني العام 1768. ومن أبرز الدبلوماسيين العرب المعاصرين الذين سجلوا ونشروا مذكراتهم أو ذكرياتهم، كلوفيس مقصود، ومحسن العيني، وعمرو موسى، وأحمد أبو الغيط، وأمين هويدي، ونجدة فتحي صفوة (العراق)، والأمير بندر بن سلطان، ونزار مدني (السعودية) وحسين راشد الصباغ (البحرين)، وفاروق الشرع (سوريا)، وإسماعيل فهمي (مصر) وغيرهم.
 ويحضرني هنا ما كتبه الصديق جميل مطر عن حكايته مع الدبلوماسية، في كتاب نشرته «دار الهلال» المصرية، في العام 2002، بعنوان «أول حكاية»، وعمله الدبلوماسي في الأرجنتين والهند وشيلي وبكين وروما.
قرأت في «أول حكاية» لوحات إنسانية في مدن وثقافات وبيئات متنوعة، وتحليلاً عميقاً للأحداث والشخصيات المؤثرة في أزمنة تلك الحكاية في نهاية الخمسينات وما بعدها حتى مغادرته السلك الدبلوماسي، والانضمام إلى حضن الصحافة والفكر والبحث الأكاديمي.
ومن الكتب التي تروي «المعلوم والمخفي» في الدبلوماسية مذكرات يفجيني بريماكوف عن الشرق الأوسط والتي صدرت في العام 2006، كشاهد عيان على أحداث المنطقة طوال نصف قرن، حيث عمل كصحفي وعالم وسياسي ومراسل لصحيفة «برافدا» ورئيساً لمعهد الاستشراق، ومديراً لدائرة المخابرات الروسية الخارجية ووزيراً للخارجية.. الخ.
ألمّ بريماكوف بتفاصيل السياسة في الشرق الأوسط، وتحدث عن الكثير من أسرارها، وشاهد بنفسه كيف تم سحل رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد في العام 1958، في الشوارع، «وقام ضابط عراقي بقطع إحدى أصابع الجثة، وجاء بها إلى مصر، معتقداً أنها أحسن هدية لجمال عبدالناصر، الذي أصيب بصدمة كبيرة من هذه الهدية» كما يقول في مذكراته.
التقيت بريماكوف في موسكو عام 2006، أثناء ترؤسه لاجتماع «مجموعة الرؤية الاستراتيجية: روسيا والعالم الإسلامي»، وكنت حينئذ عضواً في هذه المجموعة، وسمعته يقول: «إن الملايين من أبناء روسيا الاتحادية يدينون بالإسلام، وهم ليسوا مهاجرين، كما في معظم بلدان العالم الغربي، بل هم سكان روس أصليون».
دبلوماسي روسي آخر كتب «مذكرات غير رسمية» وكتب مؤلفات أخرى عن اليمين واليمينيين، وعن مدن وقرى عربية في مصر وسيناء وليبيا، وتونس وسوريا ولبنان وغيرها، ويعتبر من أهم المستعربين الروس، وقد التقيته في موسكو أكثر من مرة، وشاهدناه على محطات فضائية، معلقاً بلغة عربية جميلة وكان شاهداً على الاضطرابات التي عرفها اليمن أثناء المملكة المتوكلية، وعاصر تطورات اليمن في جزئه الجنوبي في مراحل ما بعد الاستقلال.
وفي شهادة له، تحدث عن محاولة اغتيال الإمام أحمد حميد الدين في الحديدة في مارس 1961 حين قدم إليها، وكان في زيارة لمستشفى الحديدة، الذي كان يعمل فيه أطباء سوفييت، وحينما أطلق ضباط يمنيون النار على الإمام، حمله بعض حراسه لنقله إلى القصر، وأخذوا معهم الجرَّاح السوفييتي فان جان، وكان من أصل أرمني. وفي القصر طلبوا من الجرَّاح الطبيب استخراج الطلقات من جسم الإمام، لكن الطبيب طلب إحضار الأدوات اللازمة من المستشفى، وذكر أن القصر غير مناسب لإجراء عملية جراحية، فهدده الحرّاس فطلب منهم إحضار آلات الجراحة مع زجاجة «ويسكي/كحول» فوجدها في قصر الإمام. وقام الطبيب، وفق رواية الدبلوماسي الروسي، بغسل وتطهير آلات الجراحة بنصف الزجاجة من الكحول، وأفرغ الباقي في فم الإمام، بدلاً من المخدرّ، ثم استخرج من جسده عدة طلقات، ولفه بقطعة قماش مبللة بكحول، وحينما قال الإمام إنه على ما يرام، تم إطلاق سراح الطبيب، وأهدوه حصاناً.
..........
 في العام 2017، قامت جماعة الحوثي ببناء ضريح للإمام أحمد وسمّته (جامع الرضوان) وسط صنعاء، وحولته إلى مزار، ودونت في اللوح الرخامي على قبره عبارة: «الإمام الناصر لدين الله، أمير المؤمنين أحمد بن يحيى بن محمد، وصولاً إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"