عادي
الرسول والآخر 21

الزكاة.. النموذج الأمثل

22:51 مساء
قراءة 5 دقائق
1

لم يشهد التاريخ الإنساني رجلاً عظيماً مثل رسولنا الكريم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يكن صاحب رسالة عظيمة وحسب، وإنما كانت سيرته ومسيرته التي امتدت نحو ثلاثة وستين عاماً، أنموذجاً فريداً لرسول عظيم، ونبيٍّ كريم، وقائد مُلهَم، وإنسان بلغ من الصدق والأمانة والرأفة والرحمة والتسامح مع الآخر مبلغاً لم يصل إليه أحد من العالمين، ولِمَ لا وقد قال الله في شأنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4 ـ 5]
أرسل الله تعالى رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، رحمة للعالمين، فقال عز وجل: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء: 107)، ومن رحمته - سبحانه - أن كرَّم بني آدم، فقال: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (الإسراء: 70)، وجعل الناس شعوباً وقبائل؛ ليتعارفوا ويتعاونوا فيما بينهم، فقال جل شأنه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات: 13) «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (هود: 118).

ولذلك كان التكافل الاجتماعي بين المسلمين وبعضهم بعضاً، وبين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، بل بين الناس جميعاً، أحد أهم المبادئ الأساسية التي حث عليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لاستقرار المجتمع، وذلك قبل أن تنشأ منظمات حقوق الإنسان التي يملأ «الآخر» الدنيا بها ضجيجاً، والتي لا تزال تفرِّق في تعاملاتها بين الناس على أساس الجنس أو اللون أو الدين، أما شريعة محمد بن عبدالله فلا تعرف هذه التفرقة إطلاقاً، بل وضع، صلى الله عليه وسلم، منهاجاً يسير عليه أتباعه في تعاملهم مع الناس مؤمنهم وكافرهم، خاصة في بناء الدولة والمجتمع، والقائم على مبدأ التكافل الاجتماعي.

ولعل الزكاة التي فرضها الله سبحانه وتعالى على المسلمين، تمثل النموذج الأمثل للتكافل الاجتماعي، قال تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» (التوبة: 103)، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ».

ولا يقتصر التوجيه النبوي الشريف على التكافل الاجتماعي في الأمور المادية فقط، وإنما يشمل أيضاً وحدة المجتمع الإسلامي، وأن يكون الناس فيه على قلب رجل واحد، كما قال (صلى الله عليه وسلم): «مَثَلُ المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

وقال (صلى الله عليه وسلم): «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وفي حديث آخر يقول (صلى الله عليه وسلم): «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، وقال أيضاً: «خير الناس أنفعهم للناس».

وكما كانت الزكاة ركناً أساسيّاً في التكافل الاجتماعي، كانت «المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار» أعظم نموذج للتكافل الاجتماعي لإقامة دولة قوية بالمدينة المنورة، قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر: 9).

يروي أبو هريرة رضي الله عنه – كما جاء في صحيح البخاري – ما حدث من شأن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فيقول: «قالت الأنصار للنبي (صلى الله عليه وسلم): اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا».

جاء في «السيرة النبوية» لابن هشام: قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: «تآخوا في الله أخويْن أخويْن»، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: هذا أخي.. وكان حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخويْن، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين، الطيَّار في الجنة، ومعاذ بن جبل، أخو بني سلمة، أخويْن، وكان أبوبكر الصديق رضي الله عنه، وخارجة بن زهير، أخو بلحارث بن الخزرج، أخويْن، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعتبان بن مالك، أخو بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج أخويْن، وأبوعبيدة بن عبد الله بن الجراح، وسعد بن معاذ بن النعمان، أخويْن.

أما عبدالرحمن بن عوف فيروي كيف آخى الرسول بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلّقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: «سوق قينقاع، قال فغدا إليه عبد الرحمن...».

ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تنظيم العلاقة بين المسلمين وغيرهم من يهود المدينة، على أساس التكافل الاجتماعي في الدولة الجديدة، فكانت وثيقة المدينة التي جاء فيها، كما ذكر ابن هشام في سيرته: قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وَادَعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين؛ وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين... وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل... وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛ وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم... وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم؛ وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم؛ وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه؛ وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين... وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه؛ وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين... وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"