مرونة الاقتصاد العالمي في ظل الحرب

21:57 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *
اليوم، الاقتصاد العالمي، وكل المنخرطين فيه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يعيشون أياماً عصيبة لا سابق لها. ولكأنه صار مطلوباً من الاقتصاد العالمي وكل المشتغلين في دواليبه، من حكومات وشركات ومؤسسات وأفراد، التكيف مع الحالة الفريدة التي وجدوا أنفسهم فيها فجأة. ففي وسط حمى الحرب الحقيقية المستعرة على الجبهة الأوروبية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي على الأراضي الأوكرانية، تعيّن على الإدارات القائمة على شؤون الاقتصاد العالمي، التعامل بمرونة وواقعية مع هذا الواقع المقدَّر له أن يستمر لفترة طويلة، لحين حسم قضيته الجوهرية، وهي رغبة روسيا ومعها الصين في تغيير قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية الدولية المستقرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بالانتقال من نظام الأحادية القطبية Unipolar world، إلى نظام التعددية القطبية Multipolar world. وهو ما استدعى ردة فعل عدوانية من قبل أمريكا وحلف شمال الأطلسي اللذين يرميان الآن بكل ثقلهما لمنع حدوث ذلك.
فجأة، صار مطلوباً من قطاع الطاقة على سبيل المثال، لاسيما الغاز والفحم (والنفط أيضاً)، تحوير وإعادة توجيه سياساته الإنتاجية والتسويقية. فكيف لأوروبا، الطرف الأصيل في الحرب (باسم حلف الناتو)، أن تشطب الغاز الروسي من مصدر تغذية اقتصادها بالطاقة، من دون الالتفات إلى حقيقة الأرقام التي كشفت عنها شركة Statista الألمانية المتخصصة في بيانات الأسواق والمستهلكين يوم 24 فبراير 2022 (يوم بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا)، وهي أنه باستثناء بريطانيا التي تؤمِّن نصف حاجتها من الغاز من إنتاج حقولها وتستورد النصف الباقي من النرويج وقطر؛ وإسبانيا التي تستورد غازها من الجزائر والولايات المتحدة، فإن فنلندا تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 94%، ولاتفيا بنسبة 93%، وبلغاريا بنسبة 77%، وألمانيا بنسبة 49%، وإيطاليا بنسبة 46%، وبولندا بنسبة 40%، وفرنسا بنسبة 24%، وهولندا بنسبة 11%، ورومانيا بنسبة 10%.
ومنذ عام 2009، يتم تسليم الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر 12 خط أنابيب، منها ثلاثة خطوط أنابيب مباشرة (إلى فنلندا وإستونيا ولاتفيا)، وأربعة عبر بيلاروسيا (إلى ليتوانيا وبولندا)، وخمسة عبر أوكرانيا (إلى سلوفاكيا ورومانيا والمجر وبولندا). في عام 2011، تم افتتاح خط أنابيب إضافي هو نورد ستريم 1 (مباشرة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق). وبالإضافة إلى الأنابيب، صارت روسيا، منذ عام 2017، واحدة من موردي الغاز الطبيعي المسال (LNG) الرئيسيين إلى أوروبا، من خلال مشروع Yamal LNG Terminal. وشكلت إمدادات الغاز المسال الروسي إلى أوروبا في عام 2018، حوالي 6% من إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.
لذلك فإن بدائل الغاز الروسي لدول أوروبا، صعبة المنال، لأنها تتعلق باستبدال طرق الإمداد من الأنابيب إلى ناقلات الغاز، مهما كان مصدره، قطر أو نيجيريا أو أستراليا أو كندا أو حتى الجزائر التي لا تتوفر الآن على فائض في إنتاجها من الغاز خارج التزاماتها التسويقية المبرمة. كما أن استبدال غاز الأنابيب بغاز الناقلات يتطلب وجود محطات استقبال لإعادة تحويل الغاز المسال (Liquified gas) المشحون في خزانات الناقلات، إلى حالته الغاز الطبيعية (Regasification). وهي منشآت بحرية إما عائمة أو على الشواطئ البحرية، معززة بمرافق لتفريغ وإعادة تحويل الغاز الطبيعي إلى غاز، وخزانات، وأجهزة لقياس ضغط الغاز. ويستغرق بناء مثل هذه المحطات 5 سنوات تقريباً.
وحالياً، لا يملك مثل هذه المحطات سوى عدد قليل من الدول الأوروبية. ألمانيا مثلاً، شرعت في بناء أول محطة لاستقبال الغاز الطبيعي المسال، لكنها لن تدخل حيز التشغيل إلا في عام 2026. وقد أمرت الحكومة الألمانية شركة الطاقة الألمانية المتعددة الجنسية REW، وشركة طاقة ألمانية أخرى هي Uniper، لاستئجار ثلاث محطات عائمة لاستقبال وإعادة تسييل الغاز من الشركة اليونانية Dynagas والشركة النرويجية Hoegh، على أن تكون الأولى جاهزة للتشغيل نهاية العام الجاري، والأخريان في منتصف 2024، وذلك في محاولة لتعويض وارداتها من الغاز الروسي البالغة 46 مليار متر مكعب سنوياً، على أن تبلغ وارداتها من الغاز المسال غير الروسي، 7.5 مليار في الشتاء المقبل، ترتفع إلى 27 مليار متر مكعب صيف 2024. إيطاليا أيضاً تسعى لشراء محطة استقبال عائمة واحدة واستئجار محطتين عائمتين أخريين. بدورها أمرت الحكومة الفرنسية شركة توتال وفرعها Engie لإنشاء محطة عائمة في ميناء Le Havre (ميناء لو هافر في النورماندي شمال غرب فرنسا). اليونان استبقت الأمر وأنشأت محطة ستكون جاهزة بنهاية 2023. ويعود تفضيل الدول الأوروبية للمحطات العائمة على الأخرى البرية المماثلة، إلى تكلفتها المنخفضة التي تتراوح ما بين 50-60% من تكلفة المحطة البرية. إضافة إلى فارق الوقت في إنشائها. ولعل هذه الورطة هي التي تمنع حتى الآن دول أوروبا من إدراج الغاز (والنفط أيضاً) في حزمة عقوباتها ضد روسيا. إنما السؤال، ماذا لو قررت موسكو نفسها حرمان أوروبا من الغاز والنفط الروسي لتوجيه ضربة انتقامية رادعة لمسلسل العقوبات المتوالية ضدها؟
* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"